د. صالح بن سعد اللحيدان
تعتمد أساسيات اللغة ومعاجم الألفاظ والمفردات على أساس متين من حفظ الآثار وفهمها لإنزالها على واقعها الصحيح، والذين كتبوا في اللغة وحرّروا الألفاظ؛ لتدل على المعاني الثابتة إنما انطلقوا بعد نظر وتأمل عميقين،والذين سعوا جاهدين لاستقراء ما تدل عليه الألفاظ من الأماكن،وما تدل عليه من المواقع المختلفة كانوا يرحلون من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم،حتى يطبّقوا النص على الواقع،وهذا مهم على سبيل حفظ الأمانة وإيصال الحق المقارب إلى المطالع،حتى يقف على شيء أكيد. وعلماء المعاجم وعلماء المفردات اللغوية هم أشبه ما يكونون بعلماء الحديث،والذين رحلوا للقاء الأكابر من علماء الأسانيد وعلماء الجرح والتعديل وعلماء أحوال الرواة،ولم أنظر في كتابٍ في علم اللغة أو كتاب في علم الحديث إلا وقد علمت ووقفت على أنّ من ألّف في هذا أو ذاك قد رحل وجاس خلال الديار؛ ليتثبت مما نظره أو سمعه أو سمع به،فهذا سيبويه،والكسائي،وابن جني،والمبرد،والفراء،وهذا أبو زرعة من المحدثين،وكذا أبو حاتم،وقتيبة بن سعيد،ويحيى بن سعيد القطان،والبخاري،ومسلم،وحماد بن زيد،وحماد بن سلمة قد رحلوا من بلد إلى بلد ومن صقع إلى صقع عبر القفار؛ ليطبّقوا ما سمعوا عياناً خاصة وعلم اللغة وعلم الحديث وعلم الرواية والدراية صنوان لا يختلفان ولا يتغيران،إذ إن علم اللغة يقوم عليه القرآن بضوابط دوّنها كبار العلماء،وكذلك علم الحديث الذي هو الوحي الثاني الذي ضبطه أهله ضبطاً لا يتغيّر بما عُلم من حال حفظ السنة وأسانيدها بالضرورة.
من هذا المنطلق فإنني قد رأيت من خلال مناقشتي لبعض الرسائل «الماجستير والدكتوراه» وكذلك ما سمعته أو نقل إليّ أن هناك تقصيراً في تحرير هذه الرسائل في كافة البلدان العربية،فبعض الذين يحضّرون هذه الرسائل العليا لعلّهم يكتفون بالمراسلة للجامعات وللمراكز العلمية ودور النشر أو المراسلة لبعض الأشخاص من العلماء والباحثين الذين عندهم أصول ما يبحثون عنه دون أن يكلّفوا أنفسهم السفر والمعاينة شخصياً،وهذا فيه عور كما أن فيه نقصاً بيّناً.
ومن نافلة القول إنني وإن كنت قد ألوم بعض هؤلاء فإنني لو ناقشت رسالةً عليا،وقد علمت أنه لم يسافر ولم يطبّق على الأصول،فإنني هنا أعتبر الرسالة ذات نقص جزئي لا بد أن يتحقق في هذا اللقاء وجهاً لوجه والأخذ من الأصول الأولى المعتبرة،وهذا دون ريب يشكّل مجرد النقل والصف والرصف ويحول بين الاجتهاد المطلق،والاجتهاد المقيّد والاجتهاد الجزئي،ودون الإضافات العلمية التي هي أصل من أصول التحضير لرسالة الماجستير أو رسالة الدكتوراه،دع عنك من يبحث مجرداً من باب البحث فقط،ثم هو ليس إلا يكرر وينقل ثم ينشئ الكلام دون وجهة نظر تعتمد على الدليل الجديد الصحيح أو التعليل العقلي الذي لا يعارضه معارض،هذا ومثله. وقد آلمني كثيراً بعض الذين يلقون المحاضرات في نادٍ ما أو مؤتمر أو ندوة دون أن يكلّفوا أنفسهم بإيراد الآراء والنظريات التي يحتاجها المستمع والقارئ.
ولعلّ هذا كله سببه التراخي وحب الدعة والسير على منهاج ليس بذاك.
وإن كنت أقول هذا فإنه يوجد النادر من الرسائل والنادر من المحاضرات التي قاربت في باب بذل الرأي الجديد والنظرية الجديدة في بابها الذي نحتاج إليه،إذ العقل يستشرف دائماً كل جديد وبحاجة دائمة إلى الغذاء العلمي الذي يتكئ على قاعدة لا تتغيّر إلا بتغير طلب العقل الحر لمزيد الرأي الجديد الذي يتجدد تبعاً للعلم الذي يقوم على الحقائق والأدلة البيّنة ولعل ما هو مطروح اليوم يتراوح بين هذا وذاك، إلا أنني لا أعدو الحق فيما لو قلت إن المسؤولية تقع دون ريب على الجامعات ومراكز البحث والنوادي الأدبية التي يحسن أن تتسع لديها الدائرة، وأهم ما تطلب من الشخص هو الرأي الجديد والاجتهاد الجديد والنظرية الجديدة،وإلا فلا يجوز نظر هذا أو ذاك.
وهذا يدعو طلاب الدراسات العليا والمحاضرين والباحثين إلى ضرورة تقصي الحقائق من أصولها بالسفر واللقيا والمعاينة ثم طول النظر والتأمل ثم المعاودة بعد ذلك للدراسة العقلية الطويلة،لكي يتم بعد ذلك بذل الرأي أو بذل النظرية أو بذل الاجتهاد وهذا ما كان قد فعله سيبويه حينما رحل وكذلك الكسائي وكذلك ابن جني وسواهم،وهو ما فعله ابن ماجه،والترمذي،وأبو داود،والنسائي،وهو ما فعله كذلك ابن منظور،والفيروز آبادي،وهو ما فعله جزماً ابن تيمية،وابن قيم الجوزية،وابن قدامة،وابن حزم،وفعله كثيراً ابن جرير الطبري،وعبدالرزاق صاحب المصنف،وهو ما عوّل عليه وقام به بعض الصحابة،كما ذكره العيني صاحب عمدة القاري في الجزء الأول من شرحه على صحيح البخاري.
ولا شك أن أصل الحياة من حيث هي حياة تطلب من هؤلاء بذل الإضافات النوعية غير المسبوقة وهذا هو الفارق بيننا وبين السالفين الذين نأخذ عنهم ونتابعهم، ولعل كثيراً منا يحرّر ما كتبوا ثم هو يدوّنه له دون قصد أنّ هذا نوع من السطو لكن لعله أراد الاستشهاد المطول الذي يريد من خلاله النفع العام ولعلنا حينما نطالع كتاب تاريخ بغداد أو كتاب طبقات النحويين أو كتاب طبقات الفقهاء ثم نحن نعوّل على تراجم المجددين نجد أنهم في كثير من كتبهم، بل لعلها كلها لا يعولون على غيرهم لكنهم يجددون وهذا يظهر من خلال أسلوبهم العلمي اللغوي النحوي البلاغي الذي نفقده اليوم.
هذا لعله يجدي من يطالع هذا القول وإنما أنا أكتبه من باب بذل ما يجب أن يكون على مثلي.