د.عبدالله مناع
لا تزال عقبة إيصال الدعوات لحضور حفل افتتاح (مهرجان جدة التاريخية) مستمرة لسنتها الثالثة على التوالي؛ فـ(مسؤولية) إيصال هذه الدعوات لا تزال تائهة حائرة بين (المحافظة) ولجنتها السياحية العليا التي تشارك فيها (هيئة السياحة والآثار)، وأمانة (محافظة جدة) و(غرفة جدة)، والشركة التي تتولى إدارة فعاليات المهرجان..
..فـ(كل) جهة من هذه الجهات تلقي بـ(مسؤولية) عدم إيصال الدعوات على الجهة الأخرى. وبين (هذه) و(تلك) ضاعت رقاع الدعوات؛ لتكون النتيجة خلو مشهد حفل الافتتاح من حضور أعيان جدة ووجهائها ورجالات الصف الأول فيها.. باستثناء (عمد) حاراتها ومديري الإدارات الحكومية الذين يتوجب حضورهم (وظيفياً)، وهو ما كان سيمنعني - لو أنني أخذت ذلك في اعتباري - حتى من زيارة المهرجان، الذي امتدت أيامه بامتداد إجازة نصف العام؛ لينتهي بنهاية يوم السبت قبل الماضي، لكن (مصادفتين) حالتا - من حسن الحظ - دون ذلك.. وحملتاني على زيارة (جدة التاريخية) قبل وأثناء مهرجانها الثالث: (كنا.. كدة)، الذي عُقد هذا العام تحت عنوان (فجر جديد)..!!
كانت المصادفة الأولى عندما دعاني الفنان التشكيلي النبيل والجميل الأستاذ هشام بنجابي للمشاركة في ندوة افتتاح لـ(مرسمه) الذي أقامه قبل أشهر في واحد من أجمل بيوت (حارة الشام)، الذي قام بتأجيره وترميمه على صورته الباذخة الجمال التي كان عليها، وهو المعروف بـ(بيت الرشايدة)، الذي كان يسكنه - في الزمانات!! - المدير العام لـ(الكنداسة) الشيخ محمد علي عبده، ويقيم في عصاريه وأمسياته في (مقعده) الفريد بواجهاته الثلاث (ملتقى) يومياً، يضم الكبراء وعِلية القوم من التجار ووكلاء الحجاج والقناصل والسفراء والأطباء؛ فكل واحد من هؤلاء كان يريد أن يكون صاحب علاقة مع (مدير الكنداسة)؛ ليناله من (الحب جانب).. أو شيء من مياه الكدناسة؛ فهو الذي كان يملك - وحده - قرار توجيه منتجها من (المياه المحلاة) لمن يشاء.. في مدينة (يتشفشف) أهلها وسكانها على كوب من الماء، وليس على صفيحة منه.. في تلك الأيام من أربعينيات القرن الماضي.
لقد كان مقعد الأمس الذي أصبح (مرسماً) اليوم يشكل مع بقية مقاعد الحارة الشهيرة منظومة من (الأندية الصغيرة)، التي كانت السمة الأبرز لحارات جدة التاريخية كلها، وليس لـ(حارة الشام) وحدها، التي كان يتردد عليها أهل الحارة، ويتواصل فيها صغارهم مع كبارهم.. حيث يتسامرون، ويدردشون، ويلعبون (الكيرم) و(الدومينو) و(البلوت).. بل يقيمون فيها حفلاتهم الغنائية والسينمائية في المناسبات والأعياد؛ لتصنع تلك المقاعد أو الأندية الصغيرة تلك اللحمة الاجتماعية والمحبة المتبادلة التي عُرف بها المجتمع الجداوي في عمومه.. وأصبحت إحدى أبرز سماته.
كان (المرسم) عندما أقبلنا عليه يختال جمالاً بواجهاته الثلاث.. من خارج (بيت الرشايدة). أما داخله.. فقد كان يسطع بأبرز أعمال ولوحات ومقتنيات صاحبه الفنان (هشام بنجابي)، بل ببعض الصور الفوتوغرافية التاريخية النادرة في حياة الفن التشكيلي في المملكة وفنانيه الرواد من (الرضوى) إلى (السليم)، الذين صنعوا هم وزملاؤهم لـ(المملكة) اسماً وتاريخاً في عالم الفن التشكيلي. لتبدأ (ندوة) مختصرة العدد في حضورها، كبيرة القيمة بأسمائهم ومكانتهم في المجتمع الجداوي.. عن: جدة التاريخية.. بصفة عامة، وحارة الشام.. بصفة خاصة، لأُدلي بدلوي معهم.. قائلاً: «إن (حارة الشام).. هي حارة (الأفندية) و(البيهوات) من أصحاب (الياقات البيضاء).. وهي حارة السفراء والقناصل ورجال السلك الدبلوماسي منذ أن سكنها أول قنصل بريطاني معتمد في الحجاز.. أيام الدولة العثمانية - عام 1802م - ليتعاقب على سكناها معظم السفراء والقناصل الذين جاؤوا من بعده؛ ولذلك فقد ضمت (الحارة) مجموعة من أجمل بيوت جدة.. حتى ليمكن القول إن الواجهة الشمالية من بيوت (الحارة) - داخل السور - كانت موزعة بالتمام والكمال على سفارات وقنصليات دول العالم قاطبة. ونظراً لأفضلية مناخها - لموقعها في الشمال الغربي من جدة - فقد احتضنت أول فنادق جدة الثلاث (فنادق التيسير)، ثم لحق بها فندق قصر البحر الأحمر المطل على مياهه.. ففندق (قريش).. ففندق (جدة بالاس). كما ضمت الحارة أول مدرستين نظاميتين تعرفهما جدة: (الفلاح) و(الرشدية) التي أصبح اسمها (السعودية) بعد توحيد المملكة».
مع نهاية (الندوة) كان هناك منشد يقدم لحضورها (مجساً) حجازياً ترحيبياً بمن شاركوا فيها، وهو يحمل في ثناياه تهنئة لصاحب (المرسم)؛ لتعقبه حلقة (مزمار) خارج المرسم، جعلت من ندوة الافتتاح حدثاً شعبياً أكبر من المناسبة؛ ليفاجئ أخي العزيز هشام الجميع بعد أسابيع قليلة بإعلانه تحويل (المرسم) إلى (أكاديمية)، تعنى بأصحاب المواهب التشكيلية الشابة: تثقيفاً وتدريباً وصقلاً لهم؛ ليصبحوا فنانين تشكيليين يشار إليهم.
أما المصادفة الثانية فقد كانت بعد حفل افتتاح المهرجان، عندما دعاني أحد أبناء حارة المظلوم الأستاذ مازن السقاف لزيارة (المقهى الثقافي) الذي أقامه حديثاً على الضفة الشمالية من (سوق العلوي) في بيت الشيخ يوسف نصيف، فرحبت بدعوته مهنئاً له مبادرته في إقامة مقهى ثقافي في (تاريخية جدة)، ومؤكداً حضوري مساء يوم الخميس، الذي يسبق ختام المهرجان بـ(يومين)، دعماً لمبادرته واحتفاءً بها، إلا أن عارضاً ألمَّ بساقي اليسرى؛ ومنعني من السير عليه؛ وهو ما جعلني أفكر في الاعتذار.. لكن (مبادرته) بدعوتي ما كانت تستحق مني الاعتذار عن عدم تلبيتها مهما كانت ظروفي الطارئة.. خاصة أن (الصحافة) عبر تغطياتها لـ(المهرجان) كانت تشير إلى وجود عربات (جولف) صغيرة، تقدم خدماتها لزوار المهرجان من كبار السن وغير القادرين على المشي؛ وهو ما شجعني وطمأنني..؟!
عندما وصلنا - عبر طريق المدينة النازل - بسرعة وسهولة.. إلى الواجهة الشمالية لـ(المهرجان). كان هناك موقف لعربتنا على الأطراف الجنوبية من ميدان البيعة، قدمته مشكورة (الشركة) التي تدير فعاليات المهرجان مع الترحيب بنا من قِبل المرشدين والمرشدات التابعين لها، لنقطع السير إلى (باب جديد).. بمساعدة أحد شباب المرور، الذين كانوا موجودين بكثافة وحيوية، وروح ترحيبية مدهشة.. لتسهيل عبور المارة والسيارات؛ لأرى صفاً من عربات (الجولف).. وقد اصطفت أمامي إلى يمين البوابة؛ فحمدت الله لـ(وجودها).. باعتبارها الحل الأسرع والأمثل للوصول بواحدة منها إلى (برحة يعقوب) حيث (المقهى الثقافي).. في ظل عدم قدرة ساقي على تحمل مشوار طويل كهذا يصل - بتعرجاته - إلى كيل.. وربما أكثر. ليتقدم (مرافقي) إلى من كان يقف إلى جوار تلك العربات ويسأله إن كان بالإمكان استخدام أو استئجار واحدة منها..؟
فقال: بكل أسف.. لا.
- ولماذا..؟
- لأنها خاصة بالمسؤولين عن المهرجان.. ومن في حكمهم!!
فتساءل: والذين يحتاجون إلى استخدامها من المرضى وكبار السن.. فماذا يفعلون؟
فلم يجب..!! ليقترح المرشد الشاب الذي جاء إلى مرافقتنا، وبجواره مرشدة شابة في كامل حشمتها.. أن يحضر لي (كرسياً متحركاً) لأمتطيه و(يالشماتة.. الشامتين)!!، وأنه يسعده أن يدفعه.. حتى نصل إلى (المقهى الثقافي)، بل أن يبقى معنا.. مهما طال وقت زيارة المقهى..؟
كان المشهد سيكون.. (فضيحة) لو قبلت عرضه الودود! ولكن لم يكن أمامي من خيار!! ليلمع في خاطري مثلنا القديم: (المضطر.. يركب الصعب)؟
لأقول في إثره (ويركب الكرسي المتحرك) أيضاً! وخيراً فعلت.
ليتحرك جمعنا (الرباعي).. لنجد أنفسنا بعد أمتار قليلة أمام مكتبة جديدة، لم أرها من قبل، هي مكتبة (أيامنا الحلوة)، ولألمح بداخلها ابنا كاتبنا الكبير المرحوم الأستاذ عزيز ضياء (الأستاذة دلال والفنان ضياء)، وأمامهما نسخ من طبعة جديدة لـ(مذكرات) الأستاذ عزيز ضياء (حياتي مع الجوع والحب والحرب).. في جزءين، وليس في ثلاثة أجزاء، بعد أن أعادت طباعتهما على هذا النحو (دار التنوير) البيروتية الرائدة في اهتمامها بأدب وأدباء المملكة، ولأعلم أن صاحبها هو الأستاذ منصور الزامل، الذي وددت لو أنه كان موجوداً آنذاك لأشد على يديه.. مهنئاً له (مبادرته) التي تمثل - بحق - أجمل إحياء لـ(جدة التاريخية)؛ لتعود كما كانت مدينة الثقافة والفنون والآداب.
أخيراً وصلنا إلى (المقهى الثقافي)، الذي بدا لي من خلال واجهته الصغيرة الأبانوسية الأخشاب.. يشبه مقاهي شارع (كوندوتي) الصغيرة والأنيقة والنظيفة بين ميداني (البندقية) و(بوبيولاري) في قلب مدينة (روما)؛ فهو مثلها في نظافته وأناقته وقلة طاولاته ومقاعده، وقد يزيد عليها بـ(مكتبته) التي لا تزال في بدايات تكوينها، وبصوره الفوتوغرافية التاريخية.. كصورة (مسجد الباشا) الهائلة باستقامة مئذنته قبل (ميلانها)!! ليدير مراسل إذاعة جدة الإعلامي الشاب الأستاذ معتوق الشريف - وعلى الهواء مباشرة - حواراً بين حضور المقهى في تلك اللحظات عن جدة وثقافتها وأدبائها وفنانيها.. وحياتها إجمالاً.. ليكون مسك ختام ذلك اليوم الطويل والجميل والمرهق بسبب اضطراري للعودة (مشياً).. لأرى في رحلة العودة ما لم أره في رحلة القدوم من ترميم لكثير من مباني جدة التاريخية، لعل أبرزها ترميم (بيت المتبولي) على أطراف سوق العلوي، وأعظمها - دون شك - ترميم بيت الشربتلي الفريد من نوعه، على صورته المعمارية الدقيقة المعقدة المعجزة.. التي كان عليها؛ لتلمع في خاطري فكرة إرسال برقية شكر مكررة لأعضاء لجنة اليونسكو التي أقرت في الواحد والعشرين من شهر مايو من عام 2014م ضم مدينة جدة إلى قائمة (التراث المعماري الإنساني العالمي).. الذي يتوجب الحفاظ عليه؛ فقد كانت تلك لحظة فارقة في حياتها.. لها ما بعدها، في هذا الذي رأته وعاشته وعبَّرت عنه مهرجاناتها الثلاث الماضية.
ويبقى - بعد هذا - تحقيق وعد أمين محافظة جدة الدكتور هاني أبوراس بإقامة حديقة في أنسب المواقع من جدة التاريخية باسم (حديقة اليونسكو) - ذكرى 21 مايو 2014م.