د. حسن بن فهد الهويمل
أما قبل:-
ومن باب الاستهلال، نُعرِّف بالفرق بين [أمَّات] و[أمهات] فكلتاهما جمع [أم] و[أمة]. هذا من الناحية الشكلية. أما من الناحية الدلالية فالأولى لما ليس فيه روح. والأخرى، لما فيه روح. ذلك مما علق بالذاكرة.
ولما أجد بَعْدُ متسعاً من الجهد، والوقت للتوسل بالمعاجم، والموسوعات، لإحقاق المعرفة، والاطمئنان على صحة القول.
وعلى الناشطين من ناشئة العلم، والثقافة أن يكفوني عناء البحث، وأن يمتعوني، ومن هم على شاكلتي بمفيد القول، وصحيحه.
أما كلمة [الأشياء] فهي جمع [شيء]. ومن الحجج البارعة، وغير الرشيدة احتجاج [المعتزلة] على قولهم بخلق القرآن بقوله تعالى:- {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
فواحدهم يبده خصمه بقوله:-
- هل القرآن شيء، أو لاشيء؟.
فإن قال: شيء ألزمه بما التزم به الاعتزالي. وإلا لامه على ذم القرآن.
وقد فند علماء السنة هذه الشبهة الواهية، في حجاجهم الممتد عبر العصور.
وأما بعد:-
فإن لكل حضارة [أمات]، و [أمهات] لايحسن بالراشدين من أبنائها نسيانها، أو التغافل عنها، وتهميشها.
ويتأكد الإهتمام حين تستشري ثقافة التبعية، والخنوع، والقابلية للتذيل. وحين يرتفع صوت الرويبضات، ويبادر معالي الأمور غيرُ أهلها.
ومن تعقب التاريخ السياسي للأمة، وقف على فترات توصف بالانتكاس، والمتربة.
وإذ يكون [الصراع الدموي] من مفردات الحياة الحتمية، والأكثر حضوراً، والأطول مكثاً، فإن على العقلاء، العالمين، المجربين من رجالات الأمة تقصي أسباب الحضور، وداواعي المكث، لتطويقها، وتضييق الخناق عليها. وإشاعة ثقافة الحوار، وقبول الآخر ليسمع، ويعي مقاصد الحضارة الإسلامية.
فعلى سبيل المثال عاشت [نجد] في أتون الفتن، والجهل، والفقر، والمرض، والتمزق، وعاشت خارج سدة التاريخ ردحاً من الزمن. ولما بادرها المؤسس [عبدالعزيز بن سعود] رحمه الله، منحها -بفضل الله- الأمن، والرخاء، والاستقرار، وتخطى بها إلى عتبات التاريخ، ولما تزل تنعم بما يؤهلها لمعالي الأمور.
وفترات التاريخ تجود بين الحين والآخر بمن يعيد لأمته ماهي بحاجة إليه. فكم من زعيم أشاع العلم، وعمم الرخاء، وأفاض بالأمن، والاستقرار. ومكن الأمة من تسطير أروع المنجزات الحضارية.
وكم من آخر كان نكتة سوداء، وسطراً قاتماً على صفحات التاريخ. وكم من دولة سقطت. وكم من حضارة انهارت. وكم من أمة ذلت بسبب سوء التقدير، وضعف التدبير.
- فأين الأمويون، والعباسيون، والفاطميون، والبويهيون، والأيوبيون، والسلاجقة، والأتراك، وسائر المسميات، التي أصبحت خبراً بعد عين.
والتاريخ مليء بالمغامرين الذين يفرطون بالمكتسبات، ويجرون أمتهم إلى الويل، والثبور، وعظائم الأمور.
ما أوده وألح عليه تكريس [الأمات] و[الأمهات] في ذاكرة الناشئة، ليكونوا قدوة، ومدداً.
وهل هناك أهم من السِّير الحميدة؟
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا مصاحف يمشون في الأسواق. وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم:- [كان خلقه القرآن].
والله سبحانه، وتعالى قال عن أبي الأنبياء إبراهيم:- {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وكم من عالم، أو قائد، أو حاكم، يكون بمنجزه أمة. بل كم من كتاب، أو قصيدة، أو رواية، غيرت مجرى التاريخ.
وهناك سلسلة كتب تجاوزت العشرة، تحدث فيها مؤلفها عن الكتب التي غيرت مجرى التاريخ.
فهل نحن قادرون في ظل الظروف الخانقة أن نعيد ناشئتنا إلى مصادر عزها، ومنطلق حريتها.؟ ونضرب الأمثال بالرجال، والكتب.
رجالٌ في السياسة، والحرب، والعلم، غيروا مجرى التاريخ، وشكلوا بفعلهم منعطفاً تاريخياً لايستهان به.
لقد عنَّ لـ[وزارة التعليم] أن تصنع مادة في [التربية الوطنية]. وفاتها، وهي بصدد وضع المنهج، واختيار المادة أن تنطلق من [الأمات] و[الأمهات]. لقد أدركتْ شيئاً، وفاتت عنها أشياء، ماكان لها أن تفوت.
ومن قبلها [وزارة الداخلية] شرعت في تكوين لجان للمناصحة، واختارت لهذه المهمة من تتوسم فيه العلم، والحكمة، وفصل الخطاب، ولكنها - حسبما أعلم - لم تُطَعِّم وعضها وتوعيتها بمادة عن [الأمات] و[الأمهات].
[والقنوات] الإعلامية الرسمية، تنفذ بين الحين، والآخر برامج توعية، تود من ورائها تحصين الناشئة من الغزو الفكري. ولا أظنها تَنَبَّهت لـ[الأمات] و[الأمهات].
ولك أن تقول مثل ذلك عن كل التحركات الدعوية، والإرشادية. وعلى رأسها [وزارة الشؤون الإسلامية] وخطباء الجُمَع فيها.
لقد تضافرت جهود العلماء في إبراز السير الحميدة. فهناك من كتب عن حياة الصحابة، ومن كتب عن [رجال حول الرسول]، ومن كتب عن صور من حياة الصحابة، والتابعين. هذا فضلاً عمن تناول السيرة العطرة.
وهذا جزء من المشروع المؤمل. وإذ تكون الوقوعات أهم من المقولات، فإن سير الأعلام في مختلف مجالات الحياة، ومنجزاتهم أهم من القول المجرد.
[دارة الملك عبدالعزيز] -على سبيل المثال- أحسنت صنعاً حين تتبعت سير الملوك، ومنجزاتهم، ونفذت ندوات عن كل واحد منهم.
وكان بودي تخطي ذلك إلى قادة العالم الإسلامي، وزعمائه، وعلمائه. وهي تفعل مثل ذلك، أو قريباً منه بالنسبة للأدباء، والمؤرخين، والعلماء المعاصرين. بحيث بدأت تنفيذ ندوات عن كل علم من أعلام الفكر، والأدب، والتربية، والتاريخ، في مسقط رأسه، ومن خلال أسرته. وذلك بعض ما أدعو إليه.
الناشئة تريد القدوة، والقدوة تكمن في [الأمات، والأمهات].
لقد استلهمت فكرة المقال من دواعي عدة، لعل من أهمها إسناد [قسم الأدب، والنحو، والبلاغة] في [كلية اللغة العربية] مادة [المكتبة الأدبية] إلي، لتدريسها، وهي مادة تعطى للمستويات الأولى، لتعريفهم بالمكتبة العربية من خلال دراسة بعض أمات الكتب. وهي مادة لاتتطلب مزيداً من الجهد، فدراسة التاريخ الحضاري للإسلام مُيسرة، وإن كانت مهمشة، والغلبة للتاريخ السياسي.
فحين رجعت إلى حقول مكتبتي، وجدت تغطية متميزة، وأدركت أننا مقصرون في تعريف الناشئة بتراثهم الحضاري المهمش، بل المقموع. وأدركت أننا بمثل ماغُزينا بالعادات، والأزياء، والمأكولات، وسائر وجوه الحياة. فقد غُزينا بما هو أخطر من ذلك.
لقد هُمِّش تاريخنا الحضاري المتمثل بالرجالات، وكتب الأمات، وتُركت أفكارنا على غذاء غريب الوجه، واليد، واللسان، تضوى به الخصوصية.
لقد طغى علماء الغرب، ومفكروه، على كافة المشاهد. ومع أنهم جديرون بالاحترام، والاهتمام، لما أنجزوه في الحضارة الإنسانية، إلا أن الأقربين أولى بالمعروف.
فهل أحد منا يجهل [دارون]، و[ماركس]، و[دوركايم]، و[فرويد]، و[تشومسكي]. وكلهم علماء يهود.
لقد غيروا مجرى التاريخ الفكري، وأحدثوا نقلة نوعية في كافة المسارات الاقتصادية، والاجتماعية، والتطورية، والنفسية، واللغوية. ومع كل ماواكبهم من أضواء، يظلون امتداداً لمن سبقهم من علماء المسلمين، الذين أسسوا للحضارة الإنسانية، وانطلقت معارفهم من [الشام]، و[بغداد]، و[الأندلس]، باعتراف المنصفين من المستشرقين.
فأين نحن من [الجاحظ]، و[الدينوري]، و[المبرد]، و[الصولي]، و[الأصفهاني]، و[القالي]، و[أبى حيان]، و[ابن خلدون]، و[الجمحي]، و [المرزباني]، و[الحموي]، و[ابن رشد]، وأين نحن من أصحاب [المختارات]، و[الموسوعات]، و[التراجم]، و[السير]، و[الطبقات]، و[الأمالي] وعمالقة [النحو]، و[البلاغة]، و[اللغة]، و[الفكر]، و[الفلسفة].
ثم أين نحن من عمالقة العلم، في مختلف الفنون الدينية كـ[التفسير]، و[الحديث]، و[الفقه]، وعلومهما، وأصولهما. ودعك من علماء الطب، والكيمياء، والفلك.
ثم أين نحن من الحكام الراشدين، والقادة المظفرين. لماذا نهمش تاريخنا الحضاري، ونلهث وراء الأباعد؟
[الحكمة ضالة المؤمن] وكل تفوق علمي، أو فكري في الشرق، أوالغرب هو ضالتنا. ومن حقنا اللحاق به، وإذابته في كياننا.
الإشكالية أننا نلهث وراء المنجز الغربي، لنُلغي أنفسنا في كيانه، ونعدها عالة عليه، ونتسلل من تراثنا، ونخجل من أنفسنا، ونحني ظهورنا لمن استقام عوده على تراثنا.
إن هناك فرقاً بين أن نلحق بالآخر، لنشاركه في بناء الحضارة الإنسانية، أو أن يلحق بنا ليجود علينا بحشفه، وسوء كيله.
كما أن هناك فرقاً بين اللحاق بالتراث، والاكتفاء به، والانكفاء عليه، وبين استدعاء التراث، وتمكينه من التفاعل مع المستجد.
ظاهرة [إحياء التراث العربي] أنجزت مشروعاً حيوياً، وجَسَّرت الفجوة بين المعاصرة، والتراث.
وواجبنا أن نحفظ التوازن بين منجز أمتنا، والمنجز الإنساني، لنُسْهِم في تشكيل الحضارة الإنسانية المتعددة المصادر، والمتداخلة الألوان، والمتفاعلة الأجنحة.
ذلك بعض مانريد. أما مالا نريد، فالتصور بأننا أبناء تاريخنا، نفتخر بماضينا لنغطي عيوب حاضرنا:-
[لَيْسَ الفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبي ... إِنَّ الفَتَى مَنْ يَقوُلُ ها أنا ذا].