د. حسن بن فهد الهويمل
لم أعد بحاجة إلى مزيد من التفكير في الموضوع الذي أتناوله في مقالي الأسبوعي.
إذ كل من حولي، وماحولي من ساكن، ومتحرك في حالة متقدمة من المأزومية المتململة، كما البركان. وكأن ذلك بنت الدهر. وكأن ذِهْني جسم «المتنبي» الذي صاح في وجه المصائب:-
[ أَبِنْتَ الدَّهْر، عِنْدِي كُلُّ بِنْتٍ
فَكَيْفَ خَلُصْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ]
وكيف يبحث الكاتب عن موضوعه، وكل شيءٍ صالح للحديث، لو أنه برع في اكتشاف القارئ، وأحسن الانتقاء، وضَبَط التناول.
الإشكالية الصعبة في القارئ الذي تكاثرت عليه فيوض الأحاديث، وتكأكأ عليه المتحدثون. حتى لكأنه النحوي الذي صاح فيمن حوله:-
[افرنقعوا عني]
والإشكالية الأصعب في هدر الكلام، في غياب التصور للحدث، وللمتلقي. فمثل هذا الوضع مشتت للجهد، والوقت.
الكاتب الجاد من يتحسس عن القارئ، ويتقن تصوره، ويتخوله بالحديث، ويلتمس جوامع الكلم، ومعتصر المختصر.
فما عاد هناك من يقرأ ليفهم، أوليستفيد. المتلقي قارئ ملول، ومناكف، يبحث عن العيوب، وحين تعييه المثالب، يختلقها.
والكلام الهذر، وغير المسؤول، يتسيد المواقف. ويغثي النفوس. ويَصْرف الناس عن معالي الأمور!
ومع أننا أمة القراءة، فإنها لم تعد الخيار الأهم. كما هي عند ذوي الحضارة الغربية المعاصرة.
إن أول لقاء بين السماء، والأرض، بدأ بكلمة [إقرأ]، وهو أمر يقتضي الوجوب.
ولما كانت آلة الكتابة المقروءة [القلم] فقد جاء منصوصاً عليه في سياق الأمر{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
وبهذه النصوص يكون القلم المنتج، والقراءة للمنتج بداية التشريع.
والأمة العربية المغمورة بالفيوض الرخيصة من القول، توصف بأنها أمة غير قارئة. ومعول هذه المثلبة لغة الأرقام.
ما أود القول فيه: أن العبرة بالأثر، لا بالهذر. فما كانت الأمة العربية قبل الإسلام قارئة.
و[قريش] الموصوفة برحلة الشتاء، والصيف، والمتواصلة مع [الشام]، و[اليمن]، و[فارس] لم تكن مشهورة بالقراءة.
فقد أشار أستاذنا المرحوم [محمد مصطفى الشكعة] إلى ذلك النقص القرائي قبل الإسلام.
فـ[القرشيون] قبل الإسلام - على حد قوله - لم يكن لديهم سوى بضعة عشر كاتبا. وفي [الأوس] و[الخزرج] دون ذلك.
أما المعلم الأكبر، والهادي إلى سواء السبيل، والرحمة المهداة، فلم يكن قارئاً، ولا كاتباً. وتلك معجزة نبوية. ومبحث [نحن أمة أمية] مفازة يحار فيها القطا.
إشكالية العصر تكمن في ثراء القول، وتعدد وسائل التواصل، وفقر الانتفاع، وضآلة الفعل، واقتراف التضليل، وتجييش العواطف، لإفساد ما أنجزه المصلحون.
إذاً هناك شهوة كلام، وشهوة فعل. وبين هذا، وذاك تكمن المعادلة الأصعب. لابد من الكلام، وفي الوقت نفسه لابد من العمل. وفيما بينهما يكون النجاح المبهر، أوالإخفاق الذريع.
وزير [العمل الياباني] - كما يشاع - كتب على باب وزارته لافتة تقول: قليلاً من العمل، كثيراً من الراحة. أو هكذا يتداول الناس.
ولو قدر لـ[وزير عربي] أن يختار كلمات للافتته، لكان من الضروري أن يكتب فيها:- قليلاً من الكلام، كثيراً من العمل. ودعك من صِدْقِه، وواقعيته، ومقاصده.
المفكر الهَدْمي [عبدالله القصيمي] قال عن العرب:
إنهم ظاهرة صوتية. وهي مقولة جائرة، وإن كان لها نصيب من الصحة، وإن قَلَّ. ذلك أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كلام بليغ، والعرب في جاهليتهم يمثلون ذروة البلاغة، والبيان. وهي سليقة، ولهذا قال قائلهم:-
[ولَسْتُ بنَحْوِيٍّ يلوكُ لِسَانَهُ
ولكِنْ سَلِيْقِيٌ أقُولُ فَأُعْرِبُ]
فبعض الأمم برعت في السحر، وأخرى برعت في الطب، وثالثة برعت في الفصاحة. ومعجزة النبي تكون في مجال البراعة عند أمته.
ومع أن أهم شيء في الإنسان توفره على لغة التفاوض، والحجاج، والجدل، فإن هناك فرقاً بين اللجاجة، والحجاج المتوازن. ومن كثر كلامه قل عمله، وكثر خطؤه. وقديماً قيل:- تكلم حتى أرآك. وقيل: الإنسان مخبوء تحت لسانه.
مؤشرات الهزيمة دائماً ارتفاع نيرة الحديث، وبخاصة عند المواجهات العسكرية. فالعنتريات الفارغة تمثل الرمق الأخير. وليس من هذا القبيل حرب الشائعات، والحروب النفسية، متى اتقنت إدارتها.
ليس من مهمتي ضرب الأمثال، واستعراض الوقوعات المطروحة في الطريق، وإن كانت تشد من عضد الرؤية.
فالمتابعون يختزنون ما لا يُتَصور، كمّاً، ونوعاً من التشنجات القولية الفارغة والمغرضة.
ما أود الإشارة إليه لمجرد التدليل، والتذكير ظواهر كلامية، واكبت الانقلابات العسكرية، ووفرت لها غطاء من زائف الكتابة، ورخيص الكلام. لقد كان لها أثرها السلبي، الذي أطال أمد التيه، والتزييف.
فهل أحد ينكر الأثر الأقوى لمقال [محمد حسنين هيكل] الأسبوعي [بصراحة] الذي يتصدر عدد الجمعة من جريدة [الأهرام]، ثمّ يسمع من خلال إذاعة [صوت العرب]؟
لقد كنا نرقبه، كما لو كان قولاً فصلاً، لا معقب له. ومن ثم فعل فعله في الناشئة العربية ، وأردى كثيراً منهم في أتون المظاهرات الغوغائية، التي فوتت على أمتنا أهم الفرص، وألهتها عن كل مكرمة. لأنها شكلت ببطء ذهنية قابلة للاستجابة البلهاء.
ولما تزل فلول [الناصرية] تتشبث بالبقاء، دون أن تتحرف لمواكبة العصر. واليوم وقد زالت الغشاوة، وتعرى الزيف، نرى، ونسمع طنين [هيكل]، ثم لا نعيره أي اهتمام. غير أن الذين يعيشون على الوهم، وهم شرذمة قليلة، يتعشقون أصداء الماضي، بكل مايحمله من زيف، وغثائية.
ولما كان القول، والكتابة وجهان لعملة واحدة، أصبح من المهم تعاضد ثلاثي العملية التواصلية: [القارئ]، و[المتلقي]، و[الفكرة]. ففي تفاوتها تكمن الإخفاقات، والمحاذير. يقال هذا على كل الصعد السياسية، والدينية، والتنموية.
أمتنا لاينقصها القول. فكم خدرتها الألسنة الحداد. أمتنا بأمس الحاجة إلى الفعل، وإلى الإنتاج، وإلى سد رمق الجياع، وتأمين الخائفين، وتوحيد الكلمة:-
[قالوا اقْتَرحْ شيئاً نُجِدْ لك طَبْخُهُ
قُلْت اطْبخُوا لي جُبَّةً وَقَمْيصَاً]
في جلسة منادمة عند أحد الخلفاء، أطال بعض المتحدثين، ممن لم يعرفوا أدب المجالس، حتى ضاق به المجلس، والجالسون
فقال:- أأسكت يا أمير المؤمنين!
قال الأمير:- وهل قلت شيئاً؟
فندم ساعة لاينفع الندم.
بعض الأحيان، يضطرك سوء الحظ إلى حضور اجتماع، أو منتدى، فيتدافع المداخلون، والمعلقون بما لايغني، ولا يقني. وتتمنى ساعتها لو أن من اكتشف حبوب منع الحمل، شفعه باكتشافٍ أهم لمنع فضول الكلام.
لا أحد يشك في أهمية الفصاحة، والقدرة على الإمتاع، والاستمالة، والإقناع. فهي تاج الرجال.
وقد قيل:-
[لِسَاُن الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤادُه
فَلَمْ يَبْقَ إِلا صُورةُ اللَّحْم والدَّمِ].
ولما ارتج على أحد الخلفاء، لم يتردد في التحايل، لاحتواء الموقف. حيث قال:-
أنتم إلى أمير فَعَّال، أحوج منكم إلى أمير قوال. ثم نزل، فكان أفصح خطيب.
تحولات المشهد العربي كما المتغيرات الطقسية، يمتد أثرها إلى من حولها، ومن ثم فالمتابع الحذر، لايستخف بتقلبات الطقس السياسي العربي، ولايقيم رهانه على إمكانياته المحلية. إن علينا توجيه شبا أقلامنا إلى من حولنا، لا إلى أنفسنا.
بلادنا تنعم بالأمن، والرخاء، والاستقرار. وما يساورنا من خوف، واستياء وإشفاق لاينبعث من أنفسنا، وإنما يلحق بنا ممن حولنا من خطل في القول، واضطراب في العمل، وتفاوت بين المُلْقَي، والمتلقي.
وكم تبدو ملامح الواقع، وتنبؤات المستقبل من فعل المجاور. وقصة جار [أبي دلف] تكاد تحْكي واقع أمتنا:-
[ يَلُومُونَنِي أن بِعْتُ بالرُّخْصِ مَنْزلي
وَلَمْ يَعْلَمُوا جَاراً هُنَاك يُنَغِّصُ
فقلتُ لَهم: كُفْـُّوا المَلامَ فَإِنَّما
بِجِيرَانِها تَغْلوُ الدِّيارُ وتَرْخُصُ]
لقد مسنا، وأهلنا الضر ممن حولنا من الأعراب الذين مردوا على الكذب، والافتراء، والاعتداء، وحب الإيذاء كما العقرب.
ولما نزل نحاول تجاوز مرحلة الزيف، وما تبديه الأفواه من قول الزور، ونتن الكتابة. وتبقى معضلة حفظ التوازن بين القول، والفعل قائمة ماقامت الغفلة المعتقة، والغباء المستحكم.
وتظلُّ إشكالية أمتنا المجروحة، تنبعث من ألْسِنَةِ أدعياء النخبوية، الذين يجنون على أمتهم، مثلما جنت [براقش] على أهلها.
ولسان حال الأمة يناشدهم قائلاً:-
[تَخِذْتكمُ دِرعاً وتِرْساً لتدفعوا
نبَالَ العِدَى عَنِّي فَكُنْتمُ نِصَالها
فإِن أَنْتُمُ لم تَحْفَظُوا لمَوَدَّتي
ذِماماً فكونوا لا عَلَيْها ولا لها
قِفوا وِقْفَةَ المَعْذَور عَنِّي بِمعزْل
وخَلُّوا نبالي لِلْعِدَى ونِبَالها]