د. حمزة السالم
هناك من يقول إنَّ الريال مُقَيَّمٌ بأقل من قيمته؟ فما مدى صحة هذا الادعاء؟ والجواب الصحيح أنه لا يمكن لأحد أن يثبت أن الريال مُقَيَّمٌ بأقل من قيمته أو بأكثر من قيمته. فالريال لا تنطبق عليه أي من النظريات المتعلقة بهذا الموضوع. وذلك بسبب اعتماد المجتمع كلياً على البترول بطريق مباشر أو غير مباشر.
ولتخفيف جفاء الطرح، فلنبدأ بتاريخ الريال المجرد. فنقلاً عن مؤسسه النقد، فإن أول طرح لعملة إصدرتها مؤسسة النقد عام 1372 هـ هو الجنيه الذهبي الذي يعادل أربعين ريالاً فضياً والمساوية لأحد عشر دولاراً تقريباً، مما يجعل قيمة الريال الفضي مقارباً لقيمته اليوم أمام الدولار، ثم صارت قيمة صرف الريال بين 5.4 دولار. أعتقد عندما ربط بسلة عملة صندوق النقد ثم تأرجح، حتى ربط رسمياً أو تطبيقياً بالدولار عام 1987م. فليس عندنا إلا الأرقام وأحاديث وأبحاث يناقض بعضها بعضاً هنا وهناك، كل يروي حكاية (فمؤسسة النقد تتوقف ذاكرتها عند الجنيه الذهبي!!!). وعلى كل حال فالتاريخ لم يشرح السبب، إنما زودنا بمعلومة لا تنفعنا في غرضنا هنا.
فقيمة الريال إنما جاءت من مقدرته الشرائية في تلك الحقبة، فقد كانت 375 ريالاً مثلاً، مصروف عائلة على احتياجاتها المعيشية من مأكل ومشرب ومسكن. وبالمقابل لو ذهبت العائلة إلى أمريكا لاشترت السلة نفسها بـ 100 دولار. فهذا يعني أن الدولار يعادل 3.75 ريال في القوة الشرائية.
وهذا يقودنا إلى أن قوة الريال وضعفه تأتي من مقدرته الشرائية داخل السعودية. فلو أصبحت العائلة تشتري في السعودية السلة نفسها بـ 300 ريال، بينما تشتريها في أمريكا بـ 100 دولار، فهنا يقال إن الريال مُقيَّم بقيمة أقل من قيمته الحقيقية. والقيمة العادلة له هو ثلاثة ريالات لكل دولار. فهذا هو المعنى الأول المقصود بقيمة الريال، وهل هو مُقيَّم بأعلى من قيمته أو أقل.
ولو أخذنا بهذا المعنى، واعتمدنا عام الربط 1987م أساساً للمقارنة، فسنجد أن الريال مقوم أعلى من قيمته الحقيقية منذ عام 1988 إلى اليوم، فقيمته المفترضة ما بين أربعة إلى خمسة ريالات للدولار.
وأما إن اعتبرنا البترول هو الذي يمثل قيمة الريال، فعلينا أن نتصور مثلاً وظيفة كان راتبها 7500 ريال عام 1980، أي 2000 دولار. فهي ما تزال إلى اليوم 2000 دولار. ولكن تغيرت كلفتها على الدولة كثيراً كما تغيرت قوتها الشرائية. فقد كانت وظيفة بهذا المرتب تستهلك من الميزانية 50 برميل بترول شهرياً، وقيمتها الشرائية 7500 بأسعار 1980. وفي عام 1986 تضاعفت كلفة هذه الوظيفة على الدولة ثلاث مرات، فأصبحت تكلف نحو 150 برميلاً، بينما تناقصت القوة الشرائية لمرتب هذه الوظيفة نحو النصف إلى 5000 ريال مقارنة بعام 1980. وفي عام 2008 أصبحت كلفة هذه الوظيفة 20 برميلاً فقط. بينما اليوم، تكلف الميزانية نحو 60 برميلاً شهرياً. وقد انتهت القيمة الشرائية لراتب هذه الوظيفة، اليوم إلى3500 ريال رغم أن قيمته الاسمية 7500 ريال.
فهل يقال إنه باعتبار البترول ومؤشر الأسعار، فإن قيمة الريال قد نقصت؟ لا يقال هذا لأن الجدلية من السهل قلبها، فنقول إن القيمة الشرائية لمرتب الوظيفة اليوم هو 7500، ريال، وقد كانت قيمتها الشرائية في عام 1980 أكثر من 18 ألف ريال. وأما بالنسبة لميزانية الدولة فالوظيفة تنقلت كلفتها عشوائياً ما بين 50 برميلاً و150 برميلاً إلى 20 برميلاً، فلا يستطيع أحد الاحتجاج بالقيمة البترولية لمرتب هذه الوظيفة.
وأما التفسير الآخر لقيمة العملة فيتعلق بالتجارة الخارجية، فالدولة التي لديها فائض تجاري تشح عملتها لكثرة الطلب على العملة بسبب الطلب الدولي على صناعاتها، مما يرفع قيمة العملة. فإن تدخلت بطبع المزيد من النقد، كالصين، أصبحت عملتها مُقيمة بأقل من قيمتها، والعكس صحيح. ومنطقة اليورو شاهد آخر، فالبنك الأوربي حافظ على قيمة اليورو السنوات الأولى في الأزمة المالية، ولم يتبع سياسة أمريكا النقدية، وذلك بسبب رفض ألمانيا تخفيض اليورو، لأن هذا يعني تخفيض ديونها على الدول الأخرى. فألمانيا لا تريد أن يُقيَّم اليورو بأقل من قيمته.
والحمد الله، فهذا التفسير لقيمة العملة المتعلق بالتجارة الخارجية لا يخصنا من قريب ولا من بعيد، ففائض ميزاننا التجاري أو عجزه سببه البترول. ويكفي شاهداً: تذبذب كلفة وظيفة حكومية بين 20 برميلاً إلى 150 برميلاً، بعكس الاتجاه المنطقي. فكما بينت سابقاً، فإن قيمة الريال بالبترول تتضاعف وقت انهيار البترول وتنهار وقت ارتفاع البترول، وهذا عكس مفهوم الفائض التجاري بالضبط.
والزبدة أن الاقتصاد القائم على ثروة خارجة عن نشاط مجتمعه الاقتصادي، هو اقتصاد لا يتبع بالضرورة أياً من النظريات الاقتصادية الحديثة. فهو وإن كان اقتصاداً لا يقوم بنفسه إلا أنه علم قائم لوحده، لا يهتم به العلم الغربي. لذا فهو علم سيظل متخبطاً إن لم يحسنه أبناؤه. وهذا يشرح لنا بعض أسباب ضعف علم الاقتصاد في بلادنا، فأنا أعتقد أن الشريحة الاقتصادية في بلادنا هي الأضعف علمياً على الإطلاق في بلادنا. هذا الضعف زاد من اعتمادنا على الخبير الاقتصادي الأجنبي، والذي لا يستطيع الخروج من التصور الاقتصادي الغربي الصناعي. وبسبب الاعتماد الكلي على هذا الخبير بدأ يتكشف لنا اليوم كم من الخسائر الهائلة التي خسرناها في العقود السابقة، وسنخسرها في العقود اللاحقة، وأولها العقل السعودي الاقتصادي.