عبد الرحمن بن محمد السدحان
* قيلَ في الأمثال (الصمت حكمة)، وقيل أيضاً (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب). وقيل غير ذلك الكثير، وتلك أمثال تختزنها الذاكرة منذ الصِّغر، وقد كنتُ وما زلتُ أسلِّم بأنّ الصمت في بعض المواقف والأحوال فضيلة، وأن على المرء السوي الالتزامَ به، خصوصاً في حضور مَنْ يفوقُه سناً أو مقاماً، إلاّ إذا كانت هناك ضرورة للكلام، وكان الإمساكُ عنه معيباً!
* * *
* كنت في صغري آخذ مكاني وحيداً أو مع إخوة لي أو رفاق في مجالس الرجال، لا ننطق ببنت شفة،كأنّ على رؤوسنا طيوراً! فإذا بَدَا لأحدنا رغبةُ في الحديث، تبادله مع الآخرين هَمساً كهمس العشاق، ورغم ذلك كان كل منا يوجس خيفةً أن يتخطفه بصرُ أحد الحاضرين، فيعيبَ عليه سلوكه، وربما أسْمعه ما يكره، فيلوذ مرةً أخرى بالصَّمت، وكنت أحياناً أشفق على نفسي من استبداد عقدة الصمت بي، حتى خشيتُ أن أفقدَ الرغبةَ في الكلام أو القدرةَ عليه يوماً من الأيام!
* * *
* وتمر مرحلة الدراسة الأولى (في صمت) أيضاً، لأن التعليم في زمني الأول، كان يعتمد في معظم طقوسه التلقينَ وسيلةً (لنقل المعارف)، ولم يكن هناك ما يحرّض على الحوار والعبور من بوابته بسلام، وقد استنتجتُ (مُخطئاً) وفي (صمت) أيضاً، أن الصمت قد يكون (فضيلة) مكمَّلة للقيمة المعرفية، أو موازية لها! وكان التلميذ منا لا يجرؤ على الحديث مع قرينه المجاور له خشية أن يكشفه (رادار) المدرس، فإن فعل وفشل، ناله من المدرس ما يكره!
* * *
* مرةً.. سألتُ مدرس إحدى المواد النظرية في المرحلة المتوسطة سؤالاً، فيه شيءٌ من براءة وشيءٌ من شجاعة وقليل من فضول معرفي، يتعلّق بإحدى فقرات الدرس.. فأسمعني رداً شعرتُ بعده بوحشية الغاب الذي يسكن لسان ذلك المدرس! وهجرتُ الحديثَ معه أياماً حتى اعتذر!
* * *
* العبرة المنشودة من هذا الحديث هي التالي:
* إن الصمت فضيلةٌ حقاً، حين يكون بديلاً للغو من القول مما يضر ولا ينفع!
* وهو فضيلةٌ حين يكون وسيلة للإمسَاك عن الخوض في أعراض الناس وشؤونهم بالباطل!
* وهو فضيلةٌ لا لمجرد الامتناع عن الكلام، ولكن حين لا توجد أصلاً حاجة تدعو إلى الكلام!
* وهو فضيلةٌ حين يكون وسيلة للتعبير عن موقف لا تدركه وسيلةُ الكلام! لتعارضه مع محظور في (الناموس) الاجتماعي!
* والصمت أحياناً (لغة) لا ينقصها العمق ولا الدلالة ولا المعنى، وقد يكون في بعض المواقف بعض الأحيان أبلغ من ألف كلمة!
* * *
* بقي لي قبل الختام أن أذكّر الآباءَ والأمهاتِ ألاَّ يُسرفوا في إلزام أبنائهم وبناتهم بالصّمت، لمجرد الصمت، كيلا يعتقدُوا أن الكلام عورة لمجرد أنه كلام!
* علمُّوهم متى يكون الصَّمتُ فضيلة، فيقبلوا عليه، ومتى يكونُ عورةً، فيُمْسِكُوا عنه!
* علَّمُوهم حُرية التعبير عمّا في أفئدتهم، ولكن بعقل وذكاء وحياء!
* نعم الصَّمت فضيلة، حين يكون بديلاً (أفضل) للكلام غير المباح!
* * *