علي الصراف
بماذا يبارك الله عز وجل البلدان؟.. نعم، قد يباركها بموارد، إلا أنه يباركها أكثر برجال ونساء، يعملون وينتجون ويبتكرون؛ يصنعون الثروة، ويعيدون إنتاج الإمكانيات. ينجحون ويفشلون، ولكنهم يتعلمون من التجارب، ويحرصون على المزيد من العلم حتى يتحول الفشل بين أيديهم إلى نجاح لا نهاية له.
ولكن هؤلاء هم نصف البركة، فحسب.
النصف الآخر يأتي من نخبة الإدارة والسياسة.. فمن دون هذا النصف لا ينجح النصف الآخر.
ولكي تتخذ هذه النخبة قراراً صائباً، فإنها بحاجة إلى آليات مراجعة وتدقيق ونقد.
ما ظل ينقص الطغيان، على امتداد التاريخ وفي كل مكان، هو هذه الآليات. وإن وجدت فإنها آليات زائفة، لمستشارين لا يقولون قولاً صادقاً، أو لا يسندون قولهم إلى بحث ومعرفة، أو لا يأتون إلى أدوارهم من منصة العلم والخبرة.
لهذا السبب، ظلت الانفعالية السياسية، والعشوائية في صنع القرار، سمتان غالبتان لكل سلطات الاستبداد.
إنها سلطات مشاعر، بالدرجة الأولى أيضاً، وليست سلطات تفكير. والمسافة بين الشعور والفكر أوسع من المسافة بين الأرض والسماء.
لم يجد الرئيس الراحل صدام حسين من ينصحه في بلده. الكل كان يخاف منه. وباستثناء الطبيب الذي كان يجرؤ على القول له إنه مصاب، بهذا أو ذاك، من أنواع البكتيريا، فإن أحداً لم يكن ليجرؤ على أن يقول له إن سلطته كلها كانت مصابة بمرض الفردانية، وإن بكتيريا الخداع التي نخرت صنع القرار تحت سقف هذه السلطة، كانت كافية لكي تتحول إلى مرض عضال، قتل المريض، وقتل معه البلد برمته.
لقد كان هذا الرجل يتمتع بصفات رفيعة من وجوه كثيرة.. فقد كان في بعض أحيانه شجاعاً وكريماً ونبيلاً ونزيها وعطوفاً وذا شمم. ولكنه كان في الوقت نفسه صلفاً ومغامراً وقاسياً وانفعالياً وذا غضب.
عاملان آخران لم يفارقا شخصية هذا الرجل، وظلا يهيمنان على معظم خياراته: الخوف من الغدر، والرغبة بأن يصنع لنفسه مكاناً في التاريخ.
ولم يكن هذان العاملان خطأ بحد ذاته.. بل يمكن القول إنهما طبيعيان ومقبولان ما لم يتحولا إلى هوس.. ولكن الطريق لمواجهتهما كان هو الخطأ.
فلكي يشعر بالأمن اختار أن يقرب إليه «أهل الولاء»، على حساب «أهل الخبرة». ولأن «أهل الولاء» غالباً ما كانوا أدعياء وجهلة، فقد كان من الطبيعي تماماً أن ينظروا إلى كل ما كان يفعله «القائد» على أنه عين الصواب، ولا صواب قبله ولا بعده.
وبفضل هؤلاء على وجه التحديد، بات صنع القرار فاسداً وعشوائياً وانفعالياً.
أما المفارقة الأهم، فهي أن «أهل الولاء» هؤلاء كانوا هم الذين باعوه أولاً! لأنك مهما أعطيتهم، يظلون أفقر من أن يحصنوا أنفسهم بالصواب الأخلاقي.
والصواب الأخلاقي يتطلب مقداراً عالياً من الامتلاء الذاتي.. وهذا لا يتحقق إلا بالخبرة، ولا تمتلئ قدوره إلا قطرة، قطرة.
لقد أراد صدام في الوقت نفسه أن يحول العراق إلى قوة إقليمية عظمى، من ناحية، لكي يزهو بنفسه، كأحد أباطرة التاريخ، ومن ناحية أخرى لكي يوظف إمكانات هذا البلد في خدمة تطلعات غير مدروسة ولم تتعرض للنقد والتحليل.
ولئن كان في «التطلع» بعض نفع، فقد ضاع في المغامرات، والسياسات الانفعالية، التي لم يتمكن أحد من مواجهتها أو تصويبها أو إرشاد صانعها.
هل يوجد علاج للظاهرة الانفعالية في السياسة، أو للعشوائية في صنع القرار؟..
نعم، يوجد. إنه نخبة المعرفة، تلك التي تقرأ الوقائع والإمكانات والبدائل، بعين الرأي الفاحص المستنير.
وإذا كان الزهو هو الذي يجعل الفردانية تخشى من النقد، فهناك علاج لهذا أيضاً. إنه نخبة الكتمان في نخبة المعرفة، تلك التي تستطيع أن تقول قولها، من دون أن تطمع بزهو، ولا بمكسب، ويبقى قولها ملكاً لسامعه وحده.
هذه النخبة التي تجمع بين المعرفة والكتمان، موجودة في الواقع في كل البلدان التي تسير في طريق التقدم.
إنها نخبة تقول رأيها بناء على دراسة وتحليل عميقين، ولا تسمع عنها شيئاً، وكأنها غير موجودة على الإطلاق. ولكنها صانعة النصف الآخر من البركة!.