د.عبدالله مناع
إذا استبعدنا الاختطافات الفلسطينية الطارئة للطائرات في لحظات الضياع الفلسطيني.. بعد أيلول الأسود من عام1970م، والاغتيالات السياسية التي شهدها عالمنا العربي الإسلامي طوال سنوات القرن العشرين.. و(المبررة) عند مرتكبيها من الجماعات والأحزاب، و(المفهومة) دوافعها وأسبابها السياسية التنافسية عند معظم الناس..
بدءاً من اغتيال (النقراشي باشا) أحد رؤساء وزارات مصر في أواخر سنوات العهد الملكي.. إلى اغتيال (أحمد ماهر باشا) رئيس البرلمان المصري.. إلى اغتيال (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إلى اغتيال ملك الأردن عبدالله بن الحسين.. في عمان، إلى اغتيال (وصفي التل) رئيس وزراء الأردن الأشهر على عتبات فندق (الشيراتون) في القاهرة.. إلى اغتيال زعيم الاشتراكية التقدمي (كمال جنبلاط) في بيروت.. إلى اغتيال رئيس وزراء لبنان العروبي الكبير: (رشيد كرامي) (المروع) في مطار بيروت.. إلى اغتيال الرئيس أنور السادات (الصاعق) وسط رجاله وحرسه وجند نصر أكتوبر في القاهرة.. فإنه يمكن القول بطمأنينة تاريخية بأن عالمنا العربي الإسلامي هذا، لم يكن ليعرف شيئاً اسمه (الإرهاب).. إلا بعد ما عُرف بـ(الجهاد الأفغاني) الإسلامي في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، لطرد الشيوعية والشيوعيين الكفرة الملحدين.. من أفغانستان، الذين جاء بهم (بابراك كارمال).. لمساندة حكمه لـ(أفغانستان)، والذي وجد الرعاية والمباركة من الدول العربية الإسلامية المناهضة للشيوعية وللشيوعيين - ونحن منهم - في المقدمة، كما وجد الدعم السخي والمساندة الفعالة بـ(المال) والسلاح والإعلام.. في المقابل، من زعيمة معسكر الرأسمالية: (الولايات المتحدة الأمريكية).. بعد أن تلاقت مصالح الطرفين: (الجهاد).. في سعيه لتحرير (أفغانستان) من الإلحاد والكفر والعودة به إلى حظيرة (الإيمان)، و(معسكر الرأسمالية).. في توجيه أول ضربة انتقامية موجعة لعدوها الأكبر: (المعسكر الاشتراكي) وزعيمه (الاتحاد السوفييتي).. والتي انتهت في عام 1986م بـ(الانسحاب السوفييتي) من أفغانستان، وسقوط بابراك كارمال ودولته في ذات العام.. بل وسقوط الاتحاد السوفييتي وزواله بعد ذلك بسنوات قليلة مع تنحية (جورباتشوف) عن زعامة الاتحاد السوفييتي، ووصول (المخمور) السوفييتي الأكبر (يلتسين) إلى سدة رئاسته، إلا أن (الجهاد) الإسلامي الأفغاني.. الذي قاتل وضحى بالآلاف من شبابه من أجل عودة الإسلام إلى ربوع أفغانستان، أخذته نشوة النصر وأدبياته ومعسكراته الشهيرة في (بيشاور).. إلى إسلام (أحادي) متزمت متشدد متنسك يسعى إلى الآخرة، ونعيمها وحورها في (داخله) دون أن يقبل بالآخرين من (خارجه).. حتى ولو كانوا كتابيين مثله من حملة (التوراة) و(الإنجيل) من اليهود والنصارى.. بدليل أن أول تنظيمات (الجهاد الأغاني الإسلامي) التي أفرزتها معسكرات (بيشاور) و(قندهار)، وهو (القاعدة).. كان يعلن عن نفسه وهو يباشر باكورة أعماله الإرهابية في أوائل التسعينات.. بأنه يريد إخراج (الكفار) من جزيرة العرب، الذين جاء بهم التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية لإخراج (صدام) وجيشه المليوني من العراق بـ(القوة).. بعد رفضه الانسحاب من الكويت، لتتعدد بعد ذلك صور الإرهاب وتنظيماته.. إلى أن انقلب معها (الجهاد) من أجل الإسلام إلى جهاد في مواجهة الإسلام.. بضرب المراكز السكنية ونسف الأسواق وتدمير بيوت الله، وقتل المصلين الآمنين فيها.. حتى وصل عالمنا العربي الإسلامي والعالم من حولنا.. إلى ما نحن فيه الآن!!
* * *
لقد كانت ثمانينات القرن العشرين.. هي الميلاد الحقيقي لـ (الإرهاب) في عالمنا العربي الإسلامي، أما ما قبل ذلك من سنوات القرن العشرين.. فقد عاش عالمنا العربي الإسلامي في مشرقه ومغربه يكافح من أجل الخلاص من الاستعمارين البريطاني والفرنسي.. اللذين انتهيا في مطلع الأربعينات باستقلال سوريا عن فرنسا، وفي مطلع الخمسينات باستقلال مصر عن بريطانيا، وفي مطلع الستينات باستقلال (الجزائر) عن فرنسا.. وفي بحرها باستقلال (اليمن الجنوبي) عن بريطانيا، وفي ختامها بخروج بريطانيا من محمياتها في الخليج، إلا أنه عاش سنوات كفاحه تلك في حالة من (التوازن) والاستقرار الروحي والديني، يعود الفضل فيها إلى مشايخ الوسطية في مساجد الحجاز ومصر وتونس والعراق والشام وغيرها.. فلم يحارب العالم العربي الإسلامي مستعمريه من الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين آنذاك لأنهم كفار أو نصارى أو مسيحيون بروتستانت أو كاثوليك.. ولكنه حاربهم لأنهم استعمروا أرضه ونهبوا خيراتها، وتحكموا في أقداره وقراره.. وليس من شك في أن الحياة الفنية الباذخة: غنائياً وموسيقياً ومسرحياً وسينمائياً.. التي عاشها عالمنا العربي الإسلامي في أربعينات وخمسينات وستينات وحتى مشارف ثمانينات القرن الماضي.. كان لها الفضل التكميلي الأكبر، وربما الأهم في إيجاد حالة التوازن تلك: بين الديني والوجداني.. بين الروح والجسد.. بين العقل والقلب، فأغاني عبدالوهاب من (الحبيب المجهول) إلى (عاشق الروح) إلى (همسة حائرة)، والقصائد الوطنية والوصفية والعاطفية التي لحنها وغناها من (فلسطين) إلى (دمشق) إلى (دعاء الشرق).. ومن (الكرنك) إلى (الجندول) إلى (النهر الخالد).. ومن (مضناك جفاه مرقده) إلى (حياتي أنت) إلى (كل دا كان ليه) إلى (بفكر في اللي ناسيني)، ومطولات (أم كلثوم) العاطفية في (سهران لوحدي) و(جددت حبك ليه) و(ياللي كان يشجيك أنيني)، وقصائدها الدينية من (ولد الهدى) إلى (نهج البردة) إلى (سلوا قلبي) و(حديث الروح)، وقصائدها الوطنية من (السودان) إلى (الجلاء) إلى (الفجر الجديد) إلى (قصة السد) إلى (على باب مصر).. وقصائدها العاطفية من (أقبل الليل) إلى (قصة الأمس) إلى (الأطلال) إلى (هذه ليلتي)، التي قال عن قدرة تأثيرها أحد الزعماء الوحدويون العرب: إن ما فعلته أم كلثوم في ليل الرابع من فبراير من عام 64م من توحيد للعرب جميعاً في الاستماع إليها وهي تغني (أنت عمري) لأول مرة.. لمتفعله الجيوش العربية!! ومقطوعات فيروز الرحبانية الصغيرة من (فايق ياهوى) إلى (يادار دوري) إلى (أعطني الناي وغني)، وأغاني عبدالحليم حافظ القصيرة والطويلة من (ظلموه) إلى (بتلوموني ليه) إلى (زي الهوا).. إلى جانب مقطوعات (عبدالوهاب الدوكالي) في المغرب، و(لطفي بشناق) في تونس.. بل وأغاني طلال المداح من (عيني علينا) إلى (ماذا أقول).. إلى (مقادير) و(زمان الصمت) في المملكة.. كانت تشكل جزءاً من ذلك الاستقرار النفسي والوجداني وقاعدة وأرضية لأجيال تلك المرحلة، فقد كانت تلك الأغاني.. تشكل مرتعاً للقلوب.. وفردوساً لأحلام الشباب وآمالهم، يحتويهم ويسعد قلوبهم الغارقة في عواطفها، إلى جانب (السينما) وأفلامها الرائعة، فليس هناك من أبناء تلك الأجيال.. من لم يشاهد فيلم (غزل البنات) و(سندريلته) الجميلة ليلى مراد، ويستمتع بـ (شجو) مدرسها العفيف نجيب الريحاني أو (الأستاذ حمام)، وليس هناك من لم ير منهم أفلام (شباب امرأة)، و(الأرض) و (انتصار الشباب) لفريد الأطرش وأسمهان فيما قبل و(لحن الخلود) مع فاتن وماجدة ومديحة يسري.. فيما بعد و(دعاء الكروان) وثلاثية محفوظ (السكرية وقصر الشوق وبين القصرين)، ومن منهم لم ير مسرحيات (إلا خمسة) للريحاني و(المائدة الخضراء) ليوسف وهبي و(الأيدي الناعمة) للحكيم و(الناس اللي فوق) و(سكة السلامة) في المسرح القومي المصري، الذي كان يسانده المسرح السوري بمسرحياته الرائعة: (غربة) و(ضيعة تشرين) و(كأسك يا وطن)، يضاف إلى ذلك تلك المعاهد الموسيقية والفنية.. التي كانت تفتح أبوابها للموهوبين من الشباب لينهلوا منها كي يصبحوا (فنانين)، يعجب بهم الناس ويلتفون حولهم ويتحلقون.
لقد شكلت تلك المنظومة من الأعمال الغنائية والسينمائية والمسرحية.. التي أسماها الأستاذ محمد حسنين هيكل بـ (القوى الناعمة) سياجاً احتمى به ذلك (التوازن) بين العقل والقلب.. والروح والجسد طيلة سنوات القرن العشرين، وقبيل أن يظهر (الإسلام) الجهادي الأحادي المتنسك.. الذي جاء به الجهاد الأفغاني، ومعه محاولة تهميش تلك القوى الناعمة والاستخفاف بها.. بل والاستعلاء عليها.. لينفرد وحده بساحة (العمل)!! حتى يفعل ما يحلو له..!!
* * *
وإذا كنا قد فطنا في الداخل.. في وقت مناسب.. إلى أن المواجهة الأمنية للإرهاب.. لا تكفي، وأن خيراً منها مبدأ (المناصحة) لهؤلاء الشباب الغر الذين يسهل تضليلهم عاطفياً.. إلا أنني ومع تقديري لـ(المناصحة) وجهودها - أستأذن في القول.. بأن المناصحة وحدها قد لا تكفي، فهؤلاء الشباب المغرر بهم.. يملكون قلوباً وفراغاً عاطفياً يحتاج إلى ملئه، وإشغاله.. وليس هناك بأفضل من تلك (القوى الناعمة) لفعل ذلك.. لملء تلك القلوب!!