أحمد محمد الطويان
بعد حرب طاحنة، استيقظت لبنان من موت سريري على يد رفيق الحريري في 1992، ورحلة أعماله الطويلة والمؤثّرة سياسياً واجتماعياً في سبيل إيقاف الاقتتال فترة الثمانينات المظلمة. مات الحريري في الوقت الذي كانت تتعافى فيه أميرة الجبل والبحر والسهل. مات الحريري، وكاد لبنان أن يلحق به، الصيغة والدولة والهوية، أدخلت مشفى الوطنية لتتعافى، خرجت من المستشفى بسرعة، في الشهر الذي تلا اغتياله، عادت إلى الحياة، وصارت أكثر تعافياً بسرعة كبيرة.
خلقت ثورة الأرز حالة مختلفة، جعلت أكثر المتشائمين متفائلاً. كان آذار - مارس 2005 ربيعاً يؤكّد عروبة لبنان، وطموحه للمستقبل وقوة قراره الوطني.. نستذكر 14 آذار في ذكرى 14 فبراير المؤلمة التي غادر فيها جسد رفيق الحريري، لأن رفيق الحريري باستشهاده وحّد اللبنانيين غير المحسوبين على أعداء لبنان، وجعل هدفهم، السيادة والحرية والاستقلال، وطُرد بشار الأسد خائباً.
لذكرى استشهاد رفيق الحريري، وانتفاضة الأرز معان عاطفية كثيرة، ولكن بلا شك المعنى الأكثر تأثيراً هو معناها السياسي، حيث برهنت حركة 14 آذار المعنى الحقيقي لقوة القرار الوطني، ولفعالية دور الزعامات اللبنانية، وأن لبنان لن تحكمه دمشق ولن تتصرف به طهران. اتصل بي يوم الاثنين صحافي وكاتب لبناني صديق قال لي: الشيخ سعد غاب وجاب الغنايم «في إشارة إلى المثل الدارج بلهجتنا» وسألته ما الغنائم التي جاء بها سعد الحريري؟ قال: الغنيمة الأولى «القوة» والغنيمة الثانية «النضج»
والغنيمة الثالثة «السياسة» وكل غنيمة من هذه الغنائم تحمل الكثير والكثير.
لا يعني زميلي الصحافي اللبناني أن سعد الحريري لم يكن قوياً ولا ناضجاً ولا سياسياً قبل خروجه الاضطراري من بيروت.. ولكن كما فهمت وحسب ما أرى أيضاً أن سعد الحريري كان مقيداً، بين مثاليات لا يريد تجاوزها، وواقع لا يريد خسارته، وكيان متحالف لا يريد اهتزازه. أما النضج فلا يأتي إلا بالممارسة، وخوض التحديات، وها هو يظهر بشكل سياسي أكثر رصانة ونضجاً مما يعطي خطابه السياسي تأثيراً مضاعفاً. أما السياسة فالمقصود هنا معرفة «زواريب» السياسة اللبنانية، واستخدم «زواريب» وهي كلمة لبنانية لأنها تعطي المعنى بدقة، أصبح الحريري أكثر تمرساً في اللعبة السياسية اللبنانية، ويعرف جيداً ماذا يريد وكيف يصل إلى ما يريد.
في خطاب 14 فبراير قبل ثلاثة أيام ألقى سعد الحريري أفضل وأهم خطاب في مسيرته السياسية، وأكد زعامة تأسست على أرض صلبة، وحاول جاهداً بظهوره المختلف أن ينهي كل إخفاقاته وكل خطواته المرتبكة، والفرصة الآن أمامه لإظهار صورة مختلفة أكثر قوةً وثباتاً وشجاعة. خطاب الحريري برأيي كان قاسياً على سمير جعجع في عدة جوانب، ولكن أيضاً لا بد أن يقال ما قيل، في أجواء تحديات لا بد فيها أن تقال الصراحة التي يعتقدها القائل مهما اختلفنا مع مضمونها. سمير جعجع ليس شخصية عادية، وهو بلا شك الزعيم المسيحي الأكثر تأثيراً، والأكثر ذكاءً والأكثر حكمة، وتربطه بالحريري علاقة عميقة ومشوار واحد، ويجب أن نعي جيداً بأن ظروف السياسة في لبنان أعقد بكثير مما نظن، ويُجبر السياسيون على اتخاذ مواقف صادمة أو قد نراها غير موفقة، ولعل أهم زعيم يعرف هذا جيداً وليد بيك جنبلاط الزعيم الدرزي الذي قاد انتفاضة 14 آذار، ثم في توقيت صادم قرر الخروج من 14 آذار ليس لأنه غير مقتنع بالخط السياسي ولكن لأن الظرف السياسي كان يحتم تحركاً من هذا النوع لحماية الدروز، وهذا يؤكّد أن بأن حالة زعماء الطوائف كلما قلنا بأنها تلاشت لصالح ما يمكن تسميته حالة الزعماء السياسيون، تعود الزعامة الطائفية من جديد لأنها متجذرة ومرتبطة بلبنان بكل تفاصيلها.
قال البعض إن الحريري يمثّل رؤية السعودية تجاه جعجع، ومن يعرف السياسة السعودية لن يقتنع بهذا التحليل، جعجع يتمتع بعلاقة جيدة ودافئة مع المملكة، كما كل المعتدلين من الزعماء اللبنانيين، ويبقى سعد الحريري زعيماً لبنانياً يمثّل الاعتدال الذي يوافق رؤية السعودية للبنان الحر المستقل المعتدل البعيد عن الطائفية والمذهبية، ولا تمر علاقة السعودية بالزعماء اللبنانيين أو التيارات من خلال أحد، وللسعودية سفير وسفارة، وعلاقات أعمق بكثير مما يتوقعه البعض.
عاد سعد إلى لبنان، ونتمنى أن يعود السعد.