د. حمزة السالم
والله إني لأشفق على وزارة الإسكان ووزيرها الجديد الطموح الذي جعل من مكتبه شركة إعمار وتطوير مزدحم بالمقاولين والمهندسين والمعماريين والمحامين ليل نهار، سبعة أيام في الأسبوع. فالوزير يعمل على حل مشكلة الإسكان التي قد تستهلك أكثر من ترليون ريال في سنوات معدودة. ووعد القيادة العليا لوزارة الإسكان بالدعم الكامل قد قُطع منذ سنوات، وقد تجدد مع استلام الوزير الجديد للوزارة. والوزير عازم على عدم التفريط بالدعم الممنوح، فما مُنح الوعد بالدعم الكامل إلا لإدراك القيادة العليا بأهمية غلق ملف الإسكان في أسرع وقت.
وبين الوعد القديم والجديد تحد كبير، فما عادت عائدات البترول، بدون فكر مستقل يحسن استغلالها، تستوعب قدرات الوزير الشاب المصمم على إغلاق ملف الإسكان، وعدم التفريط بوعد دعم القيادة. فالوزير اليوم يواجه تحديين وليس تحديا واحدا، كالأمس. يواجه تحدي تدبير مئات المليارات كل سنة، ليغلق في سنوات معدودة ملف الإسكان للأبد. وقد أدرك الوزير الفطن عمق إبعاد المشكلة المالية. فأكثر من ترليون ريال تُستهلك في البناء والإعمار في سنوات، لا بد وأن تستنزف الاحتياطيات مع تحويل العمالة الأجنبية قيم والمواد المستوردة بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا يمكن أن يهز الثقة بالريال السعودي، إذا أنجز الوزير مهمته في وقت قصير، قبل عودة أسعار البترول، فالمشكلة تتعدى مشكلة الأراضي، حتى ولو صارت الأراضي مجانية. هذه مشكلة جديدة لم تواجهها الوزارة قبل سنوات التي أضاعت الفرصة حينها، وفرطت بالوعد المقطوع من القيادة بالدعم.
عقبة الترليون وما وراءه من استنزاف الاحتياطيات، كانت كفيلة بصد الوزير عن خططه الطموحة، أو تأخيره على الأقل.
ولكنه لم ييأس وقد كادت الآمال أن تنقطع، فرُميت دراسة الأجنبي المعقدة بلا سبب، والمكلفة بلا حاجة في درج المهملات. فليس بإمكان الوزارة صناعة سوق مالية برجالها وتجهيزاتها كالسوق الأمريكية، لتطبق الوزارة خيالات دراسة الأجنبي. وليست البلاد، أصلا بحاجة لمثل تلك السوق.
وجاء الوزير شاحذا فكره، سعودياً بفكر سعودي، مدركا لقواعد العلوم المالية الأجنبية وأسبابها لا حافظا لتطبيقاتها، فوضع خطته موجها ومرشدا لفريق عمله، والحاجة أم الاختراع، والفارس متى حُمل الراية، حمل همها فلم يبتسم الوزير حتى أنهى وضع خطته.
فهندس نموذجا تمويليا يتحوط بنفسه للفائدة بلا كلفة ولا مخاطرة. فوفر المليارات على الدولة، نموذج يقوم بكل المنظومة التمويلية العقارية التي جلست أمريكا تطورها عقودا، فوفر مليارات أخرى كانت ستذهب كلفة شركات الضمانات التأمين وشراء الرهون التي ستجلب آلاف الخبراء الأجانب المقلدة الذين لا يعلمون السعودي ولا يأتون بجديد مختلف عن بلادهم. نموذج لا يحتاج فيه لاقتراض من بنك ولا لميزانية من حكومة. نموذج قادر على إغلاق لائحة الانتظار في القرض العقاري في عام واحد دون تقصير لمدة ولا تخفيض لقرض ولا استرجاع للفوائد.
ولكن أين السيولة، فإغلاق لائحة المتقدمين للقرض العقاري فقط تحتاج قرابة الترليون ريال، ولو توفرت السيولة من مؤسسة النقد، فما مصير الاحتياطيات الأجنبية التي ستستهلكها تحويلات العمال والاستيرادات والشركات التي تعاقد وتفاهم معها، وكأن كلفة البناء في جيبه.
ما كان للوزير أن يُقدم على التعاقدات والتعاهدات مع شركات التطوير، لولا ثقته بوعد القيادة بدعم الإسكان. وليس الوزير ممن يَسأل ولا يُعين، وقد رأى الوزير الفرصة في فك المعضلة، فكون الإسكان ضرورة تأتي مباشرة بعد ضرورة الماء والرز والقمح وحليب الأطفال، مع أنها هي المعضلة إلا أن فيها الفرصة، فليس هناك مجال لخسارة شاملة في الإسكان الضروري، وليس هناك من احتمالية تقص الطلب وسلعة الإسكان الضروري يقدم للمواطن بأقل من كلفته. فخرجت خطة الوزير سعودية من تربة المعطيات السعودية، بنكهة العلوم الأجنبية بأن تطرح وزارة الإسكان صكوكا مخفضة، أصولها تدفقات تسديدات الصندوق العقاري التي قد تبلغ 150 مليار على مدى 25 عاما. فتتحصل على ملاءة مالية فورية بنحو 100 مليار، وتكون الصكوك مضمونة من حيث توقيت السداد وعدم الإفلاس بوديعة شبه كاش تبلغ 5 % على الأقل من قيمة الصكوك، يتم المحافظة عليها طيلة الوقت بتعويض أي نقص فيها، فتقرضها للمواطن والمطور. ثم تُدور وزارة الإسكان القرض مرة أخرى، فتبيع حاضرا دفعات تسديد القروض المستقبلية بصكوك حاضرة مخفضة. وهكذا، تدور القروض شهرياً أو فصلياً أو سنوياً إلى أن تنتهي حاجة الإسكان الملحة العاجلة للتمويل. وبهذا ما عاد حجم التمويل عائقا، ويفتح بابا استثماريا للمالية وللتقاعد والتأمينات وللبنوك وللناس، ويحيى بذلك سوق الصكوك والسندات.
ولو لم يكن الوزير فارسا مقداما، لما تقدم بعد ذلك، فليست الاحتياطيات الأجنبية والسيولة النقدية من مهامه، ولكنه رجل صدق يحمل هم تشريفه بالثقة الملكية، مدركاً أن وعد القيادة بالدعم ما ترك له من عذر. فعاد لفريق عمله المالي وقد غابت الابتسامة عن وجهه فما ابتسم حتى وضع خطة استغلت ديناميكية النقد الحديث، فعزل كلفة البناء والتشييد عن الاحتياطيات الأجنبية. خطة وضعها فِكر الوزير الاستراتيجي لتوفير سيولة تبني الإسكان دون استنزاف الاحتياطات الأجنبية، وما درى حينها أنه وضع أساس علم اقتصادي جديد يمكنه من قلب الضرائب لإعانات، ففِكرُ الوزير لم يتوقف عند الإسكان، بل بدعم القيادة، قد يتعداه فتسبق بلادنا في مجال العلوم الاقتصادية والتجارب الناجحة. فنسأل الله له أن يصرف عنه وعن القيادة مشورة كل عاجز وتخذيل كل كسول ورأي كل جاهل ومقولة كل حاسد. فهذه العقبة الكؤود التي لا يحسن الوزير الفارس فنون حربها.