د. حمزة السالم
الاقتصاد السعودي علم قائم لوحده، دعوى نظرت لها في مقال سابق واستشهدت على إمكانيتها، ببعض شواهد دولية عامة. والتنظير بلا استشهاد له بتطبيق عملي، هو في نظري فلسفة المترفين، أو حديث فلاسفة المجانين. ولست مترفا، وأما الجنون فلا يدركه صاحبه. ولذا فسآتي اليوم بشاهد تطبيقي على مقولتي السابقة. فسأثبت أن مفهوم الضرائب الراسخة مفاهيمها المنطقية والاقتصادية عالميا، قديما وحديثا، ليس بالضرورة أن تكون قابلة للتطبيق عندنا. ولو أن المجتمعات المتأخرة لا تتلقى علوم وتجارب وأنظمة المجتمعات المتقدمة تسليماً، بل تتلقاها ناقدة متفكرة، لاختصر المتأخر الزمان في سبقه للمتقدم. فكل علم أو فكر أو ابتكار لا يخلو من أحد اثنين. إما أن تختلف المعطيات، فيكون علم أو ابتكار المتقدم إضاءة لفكر المتلقي تفتح له باب علم أو ابتكار جديد يناسبه. فإن تماثلت المعطيات، فكل حجة هناك حجة أقوى منها، وكل فكرة فهناك فكرة أفضل منها.
وقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، وفي ذلك إثبات لسنة الله في تدرج المراحل للوصول للكمال. ولهذا تتدرج الحضارات في النمو، ولولا الكوارث العظمى التي تعيد حضارة ما إلى قرون سابقة، لكان وصل أجداد أجدادنا لما وصلنا له اليوم.
وعودة لشاهد الضرائب. فهل تساءلنا قبل التفكير في الضريبة، لماذا يفرض العالم المتقدم الضرائب؟ وما هي ديناميكية عمل الضرائب في اقتصاده؟ فإن وجدنا أنفسنا مماثلين لهم، أفليس هناك مجال لنجعل ما وصلوا اليه درجة ترفعنا لنصل إلى ما هو أعلى؟ فتكون تبعيتنا التي لا يد لنا فيها، تبعية سابقة لا مسبوقة.
تساؤلات بسيطة لها أجوبة بسيطة، فالإشكالية هي في كسر طوق تبعية الفكر. ولذا الجواب أن الحكومات في الدول المتقدمة تفرض الضرائب كمورد دخل لميزانيتها؟ فيأتي سؤال متولد من السؤال المحوري الأول: ولماذا لا يطبع لها البنك المركزي ويعطيها؟ فالجواب، لان هذا يعني إضافة نقد جديد لا يقابله انتاج حقيقي جديد، وسيتولد منه أضعاف مضاعفة إذا ما انفقته الحكومة في المجتمع. وبالتالي يحدث التضخم محليا وتسقط قيمة العملة دوليا إذا كانت العملة معومة. وأما إن كانت مربوطة فما طبع والمتولد منه سيخلق تضخما وبالتالي يجد المجتمع أن قيمة عملته المحلية أعلى خارج بلاده فتخرج الأموال المحلية عن طريق البنك المركزي الذي يستبدلها بالعملة الاجنبية فيستنزف ذلك الاحتياطيات الأجنبية حتى يعجز البنك المركزي من المحافظة على سعر الصرف فتنكسر العملة وتنهار. إذا فالحكومات تفرض الضرائب لكي توفر موارد لميزانيتها من غير زيادة كمية نقد في السوق. (والعبارة السابقة يعتمد عليها نصف ما سأطرحه).
وأما السؤال المحوري الثاني وهو ديناميكية عمل الضريبة في الاقتصاد، فجامع الجواب هو أن الضريبة مكلفة للاقتصاد، فهي تؤدي لقلة الانتاج. وسرعان ما ننتبه بان الديناميكية مختلفة بينهم وبيننا، فنحن بلد لا ننتج إلا البترول وهو سلعة يتحكم بها السوق العالمية. فالنتيجة السريعة القاصرة أنه: إذا فلا كلفة على اقتصادنا في الضرائب. وهذا صحيح، ولكن لم لا نتأمل أكثر في كوننا بلدا غير منتج لغير البترول؟ فيصح كذلك ان نقول إنه يمكننا في ثقافتنا الاقتصادية وعمليا ومجربا، ومطبقا أن نبني مدينة أو مصنعا بمعزل عن الاقتصاد. (وللإيضاح، كأن نأتي بمقاول أجنبي يبني لنا مدينة على المفتاح، يأتي بعمالته ومعداته ومواده، ولا يتعارض هذا مع جوهر أيدولوجيتنا أو العصبة التي قامت عليها الدولة).
فلو جمعنا بين هدف الحكومة من الضريبة وهو زيادة موارد الميزانية دون زيادة نقد في السوق، وبين وضعنا كمستوردين لاغلب حاجيات معاشنا، نستطيع أن نخرج بمفهوم يحقق هدف الحكومة من الضريبة بقلبه لاعانة تنموية. فالحكومة تصرف الميزانية على أمور عدة منها التنمية وخاصة في وقتنا.
فبفكرة بسيطة فسنجد ان ما تصرفه الحكومة من الميزانية على التنمية يمكن في بعضه، أن نجعله أداة تحقق هدف الضريبة بشكل مقلوب، لتكون إعانة تنموية. فبدلا من جمع دخل واحد من الضريبة نحقق ثلاثة أضعافه، دخل يوازي الغاء الضريبة ودخل يوازي الإعانة ودخل يوازي ما كان سيصرف على الإعانة.
وهذا الدخل الثلاثي يتحقق إذا ما عزلنا أثر مشاريع التنمية عن أن تستنزف الاحتياطيات. وللتذكير، فهذا السبب الذي يمنع ساما أن تطبع ريالات وتزود بها المالية. وتبين الفكرة بوضوح جلي لا لبس فيه ولا فجوات ضبابية تتخلله، مع تفصيل لشرح طريقة التحول الديناميكي الاقتصادي لقلب الضريبة اعانة تنمية، سيكون مقال الخميس القادم، لضيق المقام. فلعنا بعدها نسبق الحضارات أجمع، فتكون المملكة العربية السعودية اول من قلب الضريبة إلى إعانة تنموية.