د. حمزة السالم
ليعلم كل قارئ إن كان هناك شح في السيولة عندنا فإن مصدره مؤسسة النقد. فليس هناك ما يمنع مؤسسة النقد من ضخ التريليونات، إذا ضُبط التضخم الخارج عن حدود النمو، وأمنت دفاعات الريال، وهي الاحتياطيات الأجنبية. ولذا فمؤسسة النقد يجب أن لا تخلق شحا في السيولة إلا بسبب أحد أمرين. إما توقف التنمية الاقتصادية، لذا فالسيولة سينتج عنها تضخم ولذا تعمل مؤسسة النقد على امتصاصها. والثاني أن هناك خوفا على استهلاك الاحتياطيات الأجنبية. ولا أعلم أن هناك تباطؤاً في التنمية بل تقنينا لها، فما بقي إلا الاحتياطيات الأجنبية. فنحن دولة تستورد العمالة والبضاعة والخدمة والاستشارة، وثمن ذلك بالدولار. بينما لا ننتج محليا ما يخلق طلبا دوليا على الريال. وهذا يعني أن التنمية ونمو النشاط الاقتصادي سيسبب استهلاكا للاحتياطيات الأجنبية مع انخفاض عوائد الدولار من بيع النفط. وأنا أزعم يقينا، بل وعندي ما يثبت بأننا نستطيع هندسة نماذج مالية بسيطة التركيب، تحفظ الاحتياطيات الأجنبية مع توسع الإنفاق في البنية التحتية والمشاريع، بل وتغنينا عن أي ضرائب أو رسوم غير تنظيمية وتزود ميزانية الدولة ما يزيد قيمة عن بيعها لأصولها.
ومفهوم السيولة النقدية مفهوم ضبابي عند الكثير حتى من كبار المختصين. فالاقتصاد الكلي ومنه السياسة النقدية والمالية لم تنضج بعد، ولن تنضج والله أعلم أبدا لأن معطيات الاقتصاد الكلي في تغير مستمر. والاقتصاد السعودي يحتاج لقيادة حرة التفكير، عميقة الإدراك لحقيقة النقد، لا تعمل بأي نظام أو قاعدة دولية إلا بعد أن تدرك أسبابها وإبعادها ومتغيراتها، فتأخذها أو تعدلها أو تهجرها. فليس كل ما اشتهر وثبت واتفق عليه في نظام سوق النقد صالح لنا. فمثلا، الاستقلالية المطلقة للبنك المركزي الأوربي، والتي حتمتها عليه اختلاف دول اليورو، هي التي أضرت باليورو. ونحن وإن كنا رسميا وواقعيا نتبع قاعدة استقلالية البنك المركزي عن السياسة المالية والحكومية إلا أن هذه الاستقلالية لم تأت بسبب اتباع التوصيات الدولية، إنما بسبب الربط بالدولار. فالربط بالدولار كالنفط، فيه نعمة ونقمة. فالربط بالدولار هو الذي حفظ الريال من المغامرات والتجارب غير المحسوبة في الساحة النقدية الدولية، كما أنه هو الذي ضبط السياسة المالية. فتلك بعض نعم الربط. وأما نقمة الربط بالدولار أتت من أنه أراحنا من هم عناء الإبداع والتفكير، وجعلنا نخلد للكسل والاستسلام للتوصيات الدولية العامة، فتبلد الفكر الاقتصادي عندنا.
ومن نعم الربط بالدولار التي أهدرناها، نعمة كون الربط أداة قياسية لجودة السياسات المالية والنقدية كما أنه يُعد حكما مستقلا على صحة الآراء الجديدة بشأنها. فالربط كمقياس وحاكم أشد صرامة ودقة وسرعة في التنفيذ، من مقياس التضخم وحكمه الذي استخدمه عند برناكي، رئيس الفدرالي الأمريكي. فعندما ضاعف برناكي القاعدة النقدية للدولار أربع مرات وخفض الفائدة إلى الصفر واشترى أصول الرهون، وهو البنك المركزي، مخالفا بقوة لكل الأكاديميات والنظريات التي هو قام بتدريسها في الجامعة، وكاسرا لكل القواعد المتعارف عليها، قام ضده كثير من كبار اقتصادي بلاده، فحاجهم بالتضخم، فحجهم. فكانت التضخم الحكم بينهم فجاء التنفيذ مطابقا للحكم.
فلو تساءلت لم تقترض الدولة من البنوك وغيرها، ولا تطبع لها مؤسسة النقد؟ لو تساءلت لما وجدت إلا الإجابة التقليدية الإكاديمية، التي هي منبثقة أساسا كأحد حيثيات مبررات استقلالية البنك المركزي عن الحكومة. ولو خرجنا قليلا من التبعية الفكرية الاقتصادية المطلقة، لوجدنا بأن مؤسسة النقد تستطيع طباعة وضخ أضعاف مضاعفة كثيرة لما يمكن أن تأتي به أي ضريبة غير تنظيمية وتقدمها للمالية. وتكون بذلك قد منعت تحميل الدولة قروضا كما أبدلتها بعوائد تصب في التنمية تغنيها عن الضرائب غير التنظيمية.
ولا يحاج أحد بأساسيات ألف باء الاقتصاد ونظريات أو قواعد دولية ليحاجني بها ، بل الحكم هو الربط بالدولار. فهو يُغني واضعوا السياسة النقدية والمالية عندنا، عن كثير من حتميات توارثها حفظا وترديدا الخبراء الاقتصاديون أجانب كانوا أو سعوديين. فأي إجراء أو نموذج يؤدي لدعم الاحتياطيات النقدية فهو دعم لاستمرارية ربط الريال بالدولار، والعكس صحيح.
ولندرك أننا في سياساتنا المالية والنقدية ما زلنا نعاني من الأثر النفسي في عجزنا عن الاستقلالية الفكرية، والذي خلفه فينا انبهارنا بفضل نصائح المستشارين الأمريكيين قبل نصف قرن بضرورة إنشاء بنك مركزي وطبع عملة محلية، وتأسيسهم للسياسات المالية والنقدية. فبسبب ذلك، فنحن لا زلنا نعيش تحت الوصاية الاستشارية لصندوق النقد والخبراء الأجانب والنظريات الإكاديمية العامة، بسبب انبهارنا السلبي بما قدمه الخبراء لنا قبل نصف قرن.
نحن متى أحسنا فهم النقد، استطعنا صناعة العجائب بهندسة نقدية بسيطة التركيب. فما النقد إلا زيت محرك الاقتصاد. ونحن نستخدم زيتا جديدا في كل مرة، ثم نرميه فيستفيد غيرنا منه. فلو أننا أعدنا تدويره لوفرنا غالب ما نستهلكه من الاحتياطيات. وقد أحسنت السياسة البترولية باستغلالها ارتفاع الأسعار في العقد الماضي فأوجدت الفوائض، ثم قد أحسنت السياسة المالية والنقدية في صيانتها للاحتياطيات ودفاعها عنها، وعدم السماح للمغامرين بالتعبث بها. ونحن اليوم نقطف ثمرة ذاك الزرع، فلنحسن القطف كما أحسنا الغرس والزراعة.