محمد جبر الحربي
وللملائكةِ التي لا نرى أجنحةٌ، كما للطيرِ التي نرى ونعرف أجنحة، لكننا نستمدّ وصفها من القرآن الكريم، كما في مطلعِ سورةِ فاطر:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}.
وفي تفسير القرطبي تفصيلٌ، وجمالُ لغة عربية غنيّةِ مبينة:
«(جاعل الملائكة رسلاً) الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ خليد بن نشيط (جعل الملائكة) وكله ظاهر. أولي أجنحة نعت، أي أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة: ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلاً. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح.
وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: يا محمد، لو رأيت إسرافيل إنّ له لاثني عشر ألف جناحٍ، منها جناحٌ بالمشرق وجناحٌ بالمغرب، وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع -والوصع عصفور صغير-».
هذا ما كان من أمرِ أجنحةِ الملائكةِ، أما إنسانُ الحضارتِ القديمة فقد ابتكرَ أجنحةً خاصةً به، تمثل القوة والحكمة والشجاعة.
ولا يوجد أشهر من ثيران مملكة آشور المجنّحةِ في بلاد ما بين النهرين، العراق عبر حضاراته المتوالية كالسومرية والأكّادية والآشورية، وهي تماثيلُ ضخمة تحرسُ بواباتِ مدنهم وقصور ملوكهم.
وهنالك التنّين نافث النار، الكائن الأسطوري المجنّح، ويرِد ذكرُه في معظمِ حضاراتِ العالم، منه الأوربي Dragon وهو اسمٌ مأخوذ عن اليونانية بمعنى الضخم، وهنالك الآسيوي ومنه التنين الصيني الشهير بمخالبه الخمسة، وكذلك الهندي، والفارسيّ. ومنها حسب الحضارت ما هو شرّير، وما هو خيّر.
وهنالك بعيداً عن الكائنات، أجنحةُ المعارفِ والفكر، ولولا المعارف لما طار الإنسان، ولظلّ حبيسَ كهوفِ التخلفِ والجهل، كما يحصلُ مع بعض المنغلقين في أمتنا من التيارات والجماعات كافة، الذين يظنون أنهم بلغوا منتهى العلم، وأنهم يعلمون وهم لا يعلمون، وهم حتى وإنْ علموا غابت عنهم الحكمةَ، وغاب عنهم النبلُ وتغليبُ مصالح الأوطان والناس على مصالحهم الضيقة، فيؤذون الناسَ، ومن قبلُ هم يؤذون أنفسهم، ولذلك هم يرون في كلّ جديدٍ تهديداً، وهم أنفسهم تهديدٌ لأمن الأوطان بلغْوِهم وتحريضهم وبثهم للفتن، أو حين يخرج من بينهم من يُدارون بأجهزة التحكم عن بعدٍ، فيقتلون ويفجّرون ويهجّرون، ويعطلون الأوطان، فتحلّ الفوضى محل القوانين والنظام، ويصبح الشرّ والإرهاب دربَ كلِّ من لا دربَ له.
وهم يقطّعون أجنحة الأوطان، وينتفون ريشها، فتتوقف عن الطيران والتحليق واللحاق بركب الحضارة، والمشاركة في خدمة البشرية، ونشر العلم والرحمة والتسامح والوسطية والدين الحقّ، وتظلّ ذليلةً كسيرةً حبيسةً ورهينةً لديهم ولدى أعدائها المتربصين، كما هو حالُ الأمةِ في معظمِ بقاعها اليوم، فاللهم احفظ أهلنا وأوطاننا. وهناك أجنحةُ الأرواحِ وأجنحة الفنونِ والآدابِ والشعر.
وللحبّ أجنحةٌ كذلك.. تطيرُ بقلوبِ العشاقِ فينسون أنهم على الأرض.
والكلمةُ الحرّةُ الصادقةُ ابنةُ بيئتِها وهويتِها تطيرُ بك عبر الحدودِ فتصلُ إلى كلّ شعوبِ العالم، وحالُ القصيدةِ كحالها.
وتوصفُ اللغة بالمجنَّحة، وكذلك الحروفُ والقصيدة:
وها هي القصيدةُ تطيرُ بغيرٍ جناحٍ على الدنيا، مستعينةً بأجنحةِ الحقِّ والخيرِ والحبِّ والتسامحِ والجمالِ والخيال، حتى وإنْ كان الشاعر في بقعةٍ ما من هذه الأرض قد طوى جناحاه على التعبِ أو المرضِ أو الفقر أو الظلمِ أو الغربةِ، والغربةُ غربتان، غربةُ ووحشةُ روحٍ، وغربةُ مكانٍ وبلاد:
إنْ تَمْزِجِيْهَا يَا مِزاجَ قَصِيْدَةٍ
كَتَمَازِجِ الأرْوَاحِ.. بِالأرْوَاحِ
يُنْجِبْنَ حُبَّاً كَمْ تَمَنَّتْهُ الْوَرَى
قَلْبُ الأمِيْرِ.. وَمُهْجَةُ الْفَلاَّحِ
أوْ تَلْمُسِيْهَا وَالْحُرُوفُ عَلِيْلَةٌ
تَبْرَا فَيُشْرِقُ مِنْ يَدَيْكِ صَبَاحِي
حَتَّى إذَا قَامَتْ تُقَوِّمُ خَطْوَهَا
طَارَتْ عَلَى الدُّنْيَا بغيرِ جَنَاحِ*
فإذا ما طارتْ وحلّقتْ وهبَتْ الدنيا وأهلَها الخيرَ والحبّ والجمالَ والتسامحَ والمعرفةَ برقّةٍ ولطفٍ وإنشاد، فتأسرهم دونما قيد، وتدلهم على دروب الحق والجمال فترتقي بهم بلينها وحسنها وبياضِ قلبها وياسمينها، لا بالتجهّمِ والغلظةِ وقيودِ الحديد!:
أرْسَلْتُهَا للنَّاسِ مَا مِنْ غَيْرِهَا
تُسْبِي وَتَأْسِرُ دُوْنَ حَمْلِ سِلاحِ
الْوَجْهُ مِنْ وَرْدٍ وَرِقَّةُ حُسْنِهَا
مِنْ زَنْبَقٍ.. يَخْتَالُ عِنْدَ أقَاحِ
بَيْنَ التَّمَنُّعِ وَالْقُبُولِ حِكَايَةٌ
مِنْ جُوْدِ تَوْرِيَةٍ وَمِنْ إفْصَاحِ
لا كُرْهَ فِي قَلْبِ الْقَصِيْدَةِ إنَّهَا
مَعْجُوْنَةٌ مِنْ طِيْبَةٍ وَسَمَاحِ
وَتَفِيْضُ حُبَّاً لِلْبِلادِ وَأهْلِهِا
تُهْدِي النُّجُوْمَ لأعْيُنِ الْـمَلّاَحِ*
يقول الشاعر العربي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد -رحمه الله- في قصيدته «خيمة على مشارف الأربعين»، وهو اسم ديوانه الصادر في عام 1970:
كأنكَ في خيمةِ الأربعين
تُخلعُ أوتادها للسّفَرْ
وتجْمعُ للدربِ زادَ المُقلِّ
كفافَ المُنى وطويلَ السّهَرْ
على أنَّ في قلبِكَ المستفز
جناحاً يُغالبُ أنْ يُؤْتسَرْ
وفيكَ وإنْ لمْ تفُهْ صيحةٌ
يطولُ مداها ولا يُختصَرْ
لله ما أجملَ في الإنسانِ الحرّ قلبَه، وجناحَه الذي يغالِبُ أنْ يؤتسَر.