د. خيرية السقاف
في الفضاء الأعلى، وفي المدى الأدنى كل الكائنات غير الإنسان تمتزج باختلاف ألوانها، وأشكالها، وأصواتها..
تحلق، تعلو، تهبط، تحط على مرتفع، تنزل إلى جدول، تسكن في شاهق، فوق غصن، تحت ثرى، جوار جذع، على جدار، فوق سطوح، في زوايا نوافذ، خلف منعطف أبواب، كالتي تنبت في صحراء، فوق شاطئ، في المدن، في شقوق الجبال، كالتي تقطن في غابة، تعيش في كهوف، تنطلق في براري.
جميع الكائنات ذوات أرواح، وبدونها لا تختلف للون، ولا تتحارب لمنبت، ولا تتصارع لمذهب، ولا تتحزب لفصائل، تتعايش معاً، حرة تتحرك، تعنى بنفسها، ولا تزاحم بعضها..
قانونها الأبدي: السعة للجميع، الحياة للجميع، وهي لا تعقل، لا تفكر، ولا تتكلم!!
تزين الحياة، تتعايش دون صراع إلا لتأكل بالغريزة، لا غاية لها أن تتفرد، أو تتمايز عن بعضها..
إلا الإنسان، هو وحده الذي يهتك براءة الحرية، يكشف عورة الغاية، يحرض الغبار من حوله ليتسيد بلونه، بعرقه، بفكره، بأي سمة، وصفة، يحسبها الفيصل بينه وبين سواه..
وقد نسي أن اختلاف اللون، والفكر، والعرق، والرأي، إثراء له حين يكون الاندماج سبيلاً، والانصهار يقيناً، والوحدة إيماناً؛ فالفضاءات كلها لله وحده، والحياة ليست له وحده، ومواطئ قدميه تراب يتحرك، وهواء يتنقل..!!
لكنه حين يعلم أن حكمة الخالق في تنوع اللون، والشكل، والعرق، والدم، بل الفكر، والقدرة، والحس إنما لتكون محكات لمن يعقل، فيمضي في طريقه إليه بسلام، ويتعايش مع كونه بألفة، ويمنح الطريق لغيره بثقة..!
هو ذا قدره، وقانونه..
قانون يمنح للإنسان حرية العيش، والمسالمة بقيد العقل..
لكن الإنسان بغروره يقيد حريته، ويطغى على مسالمته..!
قانون السماء يهب فرص التعارف للإنسان فالتآلف ليتعايش في اطمئنان، فيقيم هذا الإنسان السدود، ويضرب القيود، بنزعاته تلك التي تهدم جدر التمازج الآمن، والانصهار الواثق، فلا أقبح من حياة يتمايز الناس فيها بمحكات هي لهم فيها عتبات نحو الارتفاع، أو التدني..!
إن ما آلت إليه هذه الحقبة بعنفوانها في حياة البشر إنما هي نتائج صنيع الإنسان في تقييد حياته بقيد ذاته، وتغاضيه عن المحكات التي جُعلت أمامه في كون الله العظيم.
وفي حصره في سجن هذه الذاتية في مدى ضيق من التمايز، والاختلاف، ومن ثم في ركوب موجات الصراع الذي احتدم فدمر أجمل ما في الحياة (إنسانها)، ثم أسس لخيباته بآمادها، تحديداً بعد أن امتدت هذه الذاتية من الأفراد للجماعات، للشعوب، للأمم، للدول..
مع أن العظمة، والسيادة تكون لمن الحياة له فضاء رحباً، واسعاً، آمناً، ونقياً..
بمثل ما هي لبقية الكائنات من غير ذوي العقول!!