عبدالله الغذامي
في الأصل الثقافي والعملي أن الإنسان كائن اجتماعي، ويكفيه أن يعيش في خلية تتواءم معه، مهما صغرت الخلية، وكلما تم له ذلك سارت أموره مع عناصر خليته بما يتوافق مع ظروفهم بصيغ تعود عليها الإنسان، غير أن العصر الحديث منذ ظهور المذياع عمل على تحويل ذهنية الكائن البشري، حيث وسع دائرة مجاله السمعي عبر المذياع ثم البصري مع التلفاز، ثم بأكثر من ذلك مع الشاشات الزرقاء بكل أنماطها، وأبرز ما في هذه التحولات هي أن (نشرة الأخبار) صارت برنامجاً يومياً ثابتاً، وكان الراديو يتصدر مجلس أي بيت، ثم أزاحه التلفاز، وأخيراً صارت الشاشة على راحة الكف لا تفارقها، ومن ثم أصبحت نشرة الأخبار، حالة لحظوية، عبر رسائل تتعاقب على الجوال عما يحدث لحظة حدوثه. وهذه ليست مسألة فضول ثقافي وليست مسألة اطلاع على ما يجري، ولكنها بلغت لتكون مسألة برمجة ذهنية لا تمس قناعاتك فحسب بل تمس نظام مشاعرك وانفعالاتك ومن ثم تصنع رؤيتك للكون من حولك، ولن تنام ليلك دون أن يصحبك الكون كله إلى فراشك، لا لينام معك ولكن ليجعلك تسهر معه، وحتى لو غفوت فإنه سيطل عليك بأحلامك وسيحولها من وردية إلى كابوسية، وبهذا تحول الرأس البشري ليكون رأساً مسيساً بالضرورة، في تصوره وفي انفعالاته، ولم يعد أي منا كائناً اجتماعياً لأن الكينونة السياسية تجرك جراً حتى لتحس بغربة نفسك وجسدك وتباعدهما عنك بما أن كل جزء فيك صار مشتتاً في بقع كونية لم تطأها قدمك ولكن شاشة ما أدخلتها لعينك وأذنك ثم لقلبك وعقلك، وصرت كمن يعرف كل شيء ولكنه لا يملك من نفسه أي شيء.