عبدالله الغذامي
ضغطت على جهاز التحكم وغيرت القناة، ومع تحول المؤشر طارت جملة سمعتها خطفاً تقول: (محاربة السنة)، مما دفعني للعودة لسماع التقرير، فأخذت أسمع المذيعة تتكلم عن تعديل في الخارطة الذهنية، وعن عقار سيساعد على حل المشكلة، ومضت في الحديث ليتضح أنها تتكلم عن (محاربة السمنة) بعقار جديد سيعدل من الخارطة الذهنية واستجابتها للسكريات القادمة للجسم.
هنا تفجرت مشاعري ضد نفسي، وكيف بي مع هذه الحالة الذهنية المرضية التي تستقبل خبراً عن محاربة السمنة وكأنه خبر عن محاربة (السنة)، أنا الذي بلغت السبعين من عمري، واتصور نفسي مثقفاً إنسانياً لا ترد عنده الفروقات الطبقية ولا العنصرية، وبكل تأكيد ليس له تاريخ مع الطائفية، كيف بي الآن أعيش هذه الأزمة مع الضمير ومع الثقافة حتى صار كل شيء مطيفاً ومتطوفاً وطائقياً، بما في ذلك ذهنية الاستقبال اليومي للخبر. تلك حال أمتنا حسياً ومعنوياً وذهنياً، حتى في أحلامنا وهواجسنا صارت الطائفة هي التي تتحكم، وصارت علاقاتنا العامة بعضنا ببعض تحت سلطة المعنى الطائفي، ولم نعد بشراً بمقدار ما نحن طوائف.
لم نكن كذلك وما كنا لنكون، ونحن الذين صفقنا للخميني الثائر والثوري عام 1979، ثم لحزب الله المقاوم الممانع، ولكن ما لبثت الأيام أن تمخضت عن خيبات تتصل وتتواصل عاماً بعد عام منذ ثورة الخميني لتتحول تلك الثورة إلى نظرية في (ولاية الفقيه)، وتتكشف لنا خطوة خطوة بأنه مشروع لتصدير عمامة الخميني (تحديداً وحصراً) وتلبيسها على كل رأس من رؤوس المنطقة، مع إزاحة العمائم التي كنا نعرفها طهراً ونقاء ووطنية (عمامة محمد مهدي شمس الدين مثالاً)، وتلا ذلك أن المقاوم الممانع الذي كنا ننتمي لضميره تحول ليكون هو القاتل في سوريا الذي يحاصر النساء والأطفال ويقتل الشجر والحجر مع البشر والثقافة والتاريخ، وحينها صار الواحد منا في حرب مع نفسه وضميره، بين أن يتأدلج مع حسن نصرالله، أو يظل وفياً مع شرطه الإنساني والضمائري، وقد اخترت الثاني لأني لن أبيع سبعين سنة من عمري للشيطان. هذه هي اللحظة التي شوهت حواس الاستقبال حتى صار خبر علمي عن السمنة وكأنه خبر كارثي عن السنة، عندي أنا الذي كان جل أصدقائي شيعة، وصاروا اليوم يتحاشون الحديث معي أو حتى ذكر اسمي، وبعضهم طلبة لي كنت - وما زلت - أراهن عليهم ثقافة وإنسانية، ولكنهم تغيروا عليَّ وعلى ذاكرتي، وقام بيني وبينهم حاجز مرعب مادته من الظنون والشكوك والقلق، هذا ما فعلته بنا ثورة الخميني بعد أربعة عقود من زمن ولاية الفقيه، تلك التي غيرت الخارطة الذهنية لكل شيء فينا، حتى في الذاكرة السمعية لسماع خبر علمي واضح في أصله لكنه تشوه بوعثاء الظرف المريض.