د. محمد البشر
أثناء إعادتي لقراءة رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وبتحقيق أستاذنا المرحوم - بإذن الله - الدكتور عبد الهادي التازي العالم والسفير والمؤرخ، رحمه الله رحمة واسعة، توقفت عند زيارة ذلك الرحالة المشهور لمنطقة القرم، ولن أخوض في الجانب السياسي والجغرافي الواقع اليوم بين روسيا وأوكرانيا حول تلك المنطقة، وإنما أذكر تلك الزيارة التاريخية لرحالة عربي سطّر مشاهدته لتلك البلاد، وسطّر جزءاً يسيراً من مشاهداته الجغرافية، والاجتماعية، ويذكر أنه استأجر مركباً للروم، وانتظر مع الركاب أحد عشر يوماً لعل الرياح تهب لتساعد المركب على الإبحار إلى هناك، وسار المركب لكن ولسوء الحظ، غيرت الريح اتجاهها وعاد المركب إلى مدينة صنوب، التي أبحروا منها، فقرر بعض التجار الاستخارة والمكوث لكن فيما يبدو أن ابن بطوطة قد أقنع صاحب المركب بالعودة والإبحار مرة أخرى إلى القرم، فاستقامت الريح، لكنها عادت إلى النكوص فقربنا من مرسى يُسمى كرشى، فأراد الركاب النزول، لكن هناك من سكان المرسى من نصح الركاب بعدم النزول لأن المكان غير آمن، فعادوا مرة أخرى وعند الساحل طلب ابن بطوطة مرة أخرى من صاحب المركب أن ينزله في البر ففعل، ويقول ابن بطوطة: رأيت كنيسة فقصدتها، فوجدت بها راهباً ورأيت في أحد حيطان الكنيسة، صورة رجل عربي عليه عمامة، متقلداً سيفاً وبيده رمح، وبين يديه سراج يقد، فقلت للراهب، ما هذه الصورة؟ فقال الراهب: هذه صورة النبي علي، فعجبت من قوله، وهنا علق الأستاذ عبد الهادي التازي - رحمه الله - على ذلك قائلاً: « من المعلوم أنه لا يوجد نبي اسمه علي، إنما قصده أن يقول النبي «إلياس» الذي ينطق عندهم «إلي» فحسبه ابن بطوطة علي ويا ليته ألح في السؤال!. ويذكر ابن بطوطة أنه قد اصطحب معه دجاجة، لكنه لم يستطع أكلها حيث إنها كانت معهم في البحر، فغلب عليها رائحة البحر فلم يستطع أكلها لسوء رائحتها، وكان المكان الذي نزلوا فيه يقال له «بشت قفجق»، وهذا الاسم كان معروفاً عند البيزنطيين عندما فتحوا جنوب روسيا، والدشت هي الصحراء بلغتهم، ويذكر ابن بطوطة أن هذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر فيها ولا جبل، وهذه تذكرني بمنظر الصحراء في شهر مارس وأبريل في الطريق من الدار البيضاء إلى مراكش، والأرض منبسطة على مد النظر، لا تقع عين الرائي إلاّ على بساط من ألوان الزهور، الحمراء والصفراء والبيضاء والبنفسجية واأرجوانية، وغيرها من بدائع الخالق جلت قدرته.
ويذكر ابن بطوطة أن بعض أصحابه قد ذهب إلى من بهذه الصحراء من النصارى واكترى منهم عربة لتحملهم إلى مقصدهم، وساروا حتى وصلوا إلى مدينه «الكفا» ويسكنها النصارى الجنويون، ولهم أمير يعرف بالدمدير، غير أن ابن بطوطة ومن معه سكنوا في منازل قرب مساجد المسلمين، لكنه سمع أصوات النواقيس، من كل ناحية، فأمر أحد مرافقيه، بأن يصعد إلى الصومعة ويقرأ القرآن، ففعل، وبعدما لبثوا برهة من الزمن حتى دخل عليهم رجل ونصحهم بالاّ يفعلوا، وفي الصباح ساروا إلى المرفأ فوجدوه كبيراً وبه عدد من المراكب التجارية والحربية، ويذكر أن أغلب سكانها كفار، وربما يريد أن يقول نصارى.
استأجر ابن بطوطة ورفاقه عجلة وساروا إلى القرم، ويذكر أنها مدينة عظيمة من مدن السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وكان عليها أميراً من قِبل السلطان، فلما علم بمقدمهم أرسل إليهم أحد معاونيه مع إمامه سعد الدين، ونزلوا بزاوية شيخها واسمه زاده الخرساني، وهو معظم عندهم يأتي إليه القضاة وكبار القوم للسلام عليه، ويذكر أن هذا الشيخ قد ذكر له أن بهذه المدينة راهباً نصرانياً يتعبد أربعين يوماً ثم يفطر على حبة فول، وطلب منه الشيخ زاده أن يصحبه لزيارة ذلك الراهب، فأبى ابن بطوطة، لكنه ندم فيما بعد، لأن زيارته سوف تجلي له حقيقة الأمر، ويذكر أن بها قاضياً حنفياً، وآخر شافعياً.
عندما قرر ابن بطوطة العودة بعد أن قابل حاكم القرم وأكرمه، ذهب مع أعوانه على عربات عبر الصحراء، وهي صحراء عشبها يغني عن الشعير، والدواب بها سائبة دون راعٍ لا أحد يستطيع أن يسرق خيلاً أو سائر الأنعام، والسبب في ذلك أن من وجد سارقاً فلا بد أن يعيد ما سرق، ومعه تسعة أمثاله، فإن لم يجد، أخذ أولاده عوضاً، وإذا لم يكن له ولد ذبح السارق. ويذكر ابن بطوطة أن أكثر ما يأكل أهل تلك الديار هي لحوم الخيل وكذلك لحوم الأغنام، ويشربون لبن الأفراس، وقد حاول ابن بطوطة إكرام السلطان، وابن بطوطة كما يعلم الجميع من مغربي طنجة، فصنع له شيئاً من الحلوى المعتادة في المغرب، المشهور بأنواع الحلوى شديدة الحلاوة بما فيها من السكر والزيت والشحم، فوضع السلطان إصبعه عليها ثم وضعها على شفتيه، ولم يزد على ذلك، وفيما يبدو أن السلطان وسائر القوم هناك، قد علموا ضرر الحلوى، وامتنعوا عن أكلها، حتى إن أحد مماليك السلطان القريبين منه، وله أولاد وأحفاد يقاربون الأربعين، قد طلب منه السلطان أن يأكل شيئاً من الحلوى، ويعتقهم جميعاً، فأبى ذلك المملوك، وفضّل العبودية على أكل الحلوى.
فليت السلطان بين ظهرانينا ليرى بأم عينيه كيف يتسابق الصغار والكبار على أكل أنواع الحلوى من شوكالات بأنواعها، وحلوى سعودية وشامية، ومغربية، ومصرية، تكسو البطون بالشحوم، ويعجز الأنسولين عن تغطية هذا الكم من الحلوى.