د. حسن بن فهد الهويمل
في أعقاب الحروب المدمرة، تحين من الإنسان المتوحش صحوةُ ضمير كحْظِيَّة يوقضها ركام الجماجم، وطوفان الدماء، وهول الدمار.
هذه الومْضة الإنسانية الخاطفة تتمخض عن قرارات ورقية فارغة، ولكنها بسرابيتها تبعث بصيصاً من الأمل الكاذب، وقد تنسي المتوجعين بعض مايعانون.
سمعنا بـ[عصبة الأمم]، وعايشنا [هيئة الأمم] وسائر مؤسساتها. واستوعبت الذاكرة عشرات المنظمات: الحقوقية، والأمنية، والتربوية، وغيرها.
ووقفت على شيء من مهماتها الأَخَّاذَةِ العناوين، ونظرنا إلى مناديبها، وممثليها، وهم يذرعون الأرض جيئة، وذهاباً. يقولون ما لا يفعلون. ويفعلون مايستنكرون. ويَعدِون، ويمنون، ومايعدون المغلوبين إلا غرورا.
تسبح بهم الطائرات أجواز الفضاء، ويَحلُّون في أرقى الفنادق، ويمرحون في أجمل المصايف. تلاحقهم [الكمرات]، وتتخطف كلماتهم وكالات الأنباء. ومايقولون إلا كذباً. يأخذون بعضهم بعضاً بالأحضان، وكأنهم في أعياد الميلاد. وينْفَضُّ سامرهم بعد ترقب لموعد، يرتبط طوله، وقصره بظروفهم، لا بظروف المعذبين، وبرغباتهم السياحية، لابصيحات المفجوعين.
والأمم من حولهم تتضور، والشعوب المغلوبة تود لو أن بينها وبين تلك المؤسسات أمداً بعيداً.
هذه المنظمات، والهيئات، والمجالس تُعقِّدُ الأمور. وتبطئ بالحلول. وتشرعن للمعتدي. وتزكي الظالم. وتدين المظلوم. وتثير الشكوك حول اليقينيات، والمسلمات.
ومن عجب أنها اُنشئت لحفظ الحقوق، ورفع الظلم، وإشاعة السلم، وتكريس الأخوة الإنسانية، وسرعة الكشف عن المتلاعبين بمصائر الأمم، مع ما ينفق عليها بسخاء من ثروات الشعوب المغلوبة على أمرها.
وهي بكل هذه المواصفات الباذخة تتحول إلى العوبة طيعة في أيدي الأقوياء. تشرعن لظلمهم، وتبرئ اعتداءتهم، وتسوِّف بالوعود، وتعمل على شغل المراقبين لخطيئاتها، وصرف أنظارهم عن مقترفاتها، ومايدور فيها من لغط فارغ، وادعاء عريض، وتشبع كاذب.
وهي في الوقت نفسه تُغْمض فيما تعانيه الشعوب المستضعفة من قتل على الهوية، وحصار، وتجويع، وتخويف، وتفريغ سكاني. على الرغم من أنها تعرف كم يموت، ولماذا، وكم يشرد، ولماذا، ثم لاتبدي تذمراً، ولا تعلن تحفظاً.
وإذا مارست دولة كـ[السعودية] حقها المشروع في الدفاع عن نفسها، وملاحقة الإرهاب، والقبض على الإرهابيين المتلبسين بجرائمهم، المعترفين بها أمام المحاكم الشرعية، المشْهودِ لها بالعدل، والإنصاف، والتماس أهون العقوبات، ثارت ثائرتهم، وعدوها بهذا التصرف المشروع من الدول التي لاتحترم حقوق الإنسان.
إن مثل هذه الأقاويل لإحدى الكُبَر، التي تقترفها تلك المؤسسات، التي تُسهم [المملكة] في دعمها طائعة مختارة. وتسعى جاهدة لتمكينها من ممارسة حقوقها، مستبقة الدعم حين يماطل الآخرون.
هذه المؤسسات ينطبق عليها المثل العامي:- [حاميها حراميها]. وإلا كيف يجرؤ مثلها على نقد [المملكة] في ممارسة حقها المشروع، والمندرج ضمن سيادتها الوطنية.
[المملكة العربية السعودية]، لم تعتدِ على أحد، ولم تمارس ما يمارسه المفسدون في الأرض، مِنْ أخذ المقيم بالضاعن، والبرئ بالمتهم، ومع ذلك تجد من هذه المؤسسات نصباً، يدل على أنها أُنْشِئَت لأهداف غير إنسانية.
ولو أن هذه المؤسسات تعاملت مع ما أنْشِئت من أجله بالعدل، والإنصاف، والمساواة، ومنع الصدام بين الفرقاء المغرر بهم، لما بلغت الدول المستضعفة مابلغته من تدمير، وقتل، وتشريد، وفراغات دستورية، أتت على الحرث، والنسل.
الشعوب العربية غُرِّر بمكوناتها المتصالحة، المتعايشة، المتحابة، وجُرَّت أقدام قادتها، لتخوض في الوحل، وتُنهي نفسها بنفسها، وتهدم بيوتها بأيديها. والمؤسسات العالمية كلها واقفة على الحياد، لاتتحرك إلا حين تتعرض مصالح الكبار للخطر.
والدليل على خيبة الأمل في سائر المنظمات، والهيئات، والمجالس أنها تفسد ما أصلحه الوفاق، ولاتصلح ما أفْسدته الأهواء، والتصرفات الهوجاء.
فـ[المملكة] -على سبيل المثال- حين أصدرت حكماً شرعياً، عادلاً، مُمحَّصاً في حق سبعة وأربعين إرهابياً، قضوا على حياة ما لايقل عن خمسمائة بريء، خَلَّفوا من ورائهم أرامل، وأيتاماً موتورين، يرقبون، وعلى مدى عشر سنوات، أو تزيد القصاص العادل من قتلة أبائهم، تَنفست بعض تلك المؤسسات الدولية بفحيحها الأفعاوي الممقوت مُتسائلة، أو مُستنكرة إزهاق أرواح مجرمة، أرواح لاتستحق الحياة، فضلاً عن الرحمة.
وبدل أن تبارك هذه المؤسسات للمملكة خطواتها في مواجهة الإرهاب، نكصت على عقبيها، وابتدرت مهمة الدفاع عن مذنبين، مدانين. وسعت لثني عزمات المملكة عن خضد شوكة الإرهاب.
قد نتوقع مثل ذلك من دولة ضالعة في الفتنة، أمَّا أن نصدم بهذا الاستنكار من رعاة العدالة، والوفاق فأمر جدَّ خطير.
المحكوم عليهم، إرهابيون: سنة، وشيعة، خططوا، وحرضوا، ومارسوا الفعل، وأَخلُّوا بالأمن، وقتلوا الأبرياء، وهدموا المباني، وأدخلوا الرعب في النفوس، وعملوا لصالح دول عدوة. وبطن الأرض خير لهم من ظهرها.
وحين ظفر بهم رجال الأمن في عمليات تشبة المغامرة، والتضحية، وحُوكموا على أصول المرافعات القانونية، وحُكموا بالعدل، بدت سوءة المتربصين، الذين يخدمون [أجندة] خفية، لاتريد لمنطقة [الشرق الأوسط] أن تستقر. وإلا كيف تُسوِّغ هذه المنظمات لنفسها التدخل في سيادة دولة مسالمة، مسها الضر من الإرهاب.
إن قرارات [المملكة] وأحكامها ليست مرتجلة، وليست مجازفة. إنها قرارات مُمَحصة، ومنسجمة مع سائر المحافل القضائية في العالم، ومع هذا تفاجأ بالشجب، والاعتراض.
إنَّ المفروض على تلك المنظمات أن تنهض بمهمة المطالبة بحقوق المغدور بهم، من مواطنين معصومي الدماء، والأعراض، والأموال، ومن رجال أمن سهروا لينام المواطنون بأمن، وطمأنينة. وأن تستعجل الأحكام التنفيذية بحق المجرمين الذين لم يراعوا في المؤمنين الآمنين إلاً، ولا ذمة.
فالعدالة، والحقوق مع القصاص، وليست مع العفو. والدولة لاتملك العفو، مادام للمغدور وليٌّ، جعل الله له سلطاناً، وأمره ألا يسرف في القتل.
الشيء المفزع، والمريب تلبس المؤسسات العالمية بالتواطؤ على استمرار الأوضاع، وتنقلها من مكان لآخر، وتسهيل تبادل الأدوار بين المستبدين، واختلاق المبرارت للتدخلات التي تسهم في تصعيد الفوضى، وخلط الأوراق، وإرباك المشتغلين الناصحين في تخليص الأمة من دوَّامات الفتن.
قد نتوقع التوحش من العصابات، والأفراد المغرر بهم، وبعض الدول الشريرة الانقلابية.
أما أن تُقْدِم المؤسسات الدولية بما هي عليه من ضوابط ، وأنظمة، وبما يتوقع منها من مهمات تتمثل بحماية الكرامة الإنسانية، وحريتها، وحفظ ضروراتها المتعددة على ممارسة ما يناقض مهماتها، فإن ذلك منتهى التردي في أوحال الفتن.
[المملكة العربية السعودية] لم تكن وحدها المُحْبَطة، والمتضررة من تلك المؤسسات، وإن كان البعض يرى أنها مستهدفة لغايات معروفة.
وسواء صدقت التوقعات، أم لم تصدق، فإن المؤسسات العالمية لم تكن ناصحة، ولا صادقة.
مؤشرات كثيرة تدل على سلبية تلك المؤسسات، وارتباطها بمصالح لاتراعي المصلحة العامة.
فعلى سبيل المثال يستمع المتابعون إلى مندوب المملكة [عبدالله المعلمي] تحت قباب هذه المنظمات، وهو يطالب بإيقاف القتل، والتدمير، ورفع الحصار عن بعض المناطق، وإمداد المتضررين بالغذاء والدواء، الخروج من سوح القتال إلى موائد المفاوضات، ومن حوله أساطين الساسة، وعليَة القوم المتنفذين في تلك المؤسسات.
ثم يستمعون إلى مندوب سوريا [بشار الجعفري] وهو يُهَوِّن من الأمر، وينكر الحقائق، ويعمِّق العداوة، ويستمرئ القتل، والتدمير.
وأمام هذين الموقفين المتناقضين، لا يجد المتابعون الاستجابة لدعوة [المعلمي] الإنسانية، ولا يجدون الاستنكار لأكاذيب [الجعفري]. وكأن المؤتمرين يُجْرون امتحاناً للمتحدثين، لتقويم جودة الإلقاء، وبلاغة القول.
لقد بح صوت [المعلمي] ولامست تأوهاته آذان المتنفذين، ولكنها لم تلامس نخوة [المعتصم].
هذه المؤسسات تحركها المصالح، ولايحركها الصدق، وتصرفها الأباطيل، ولاتوجهها الحقائق. ولو صدق الممسكون بأزمتها، لأنهوا الخلافات بجلسة واحدة. فالحق أبلج، وكل المتنفذين يعرفون الحق، ويعرفون الطريق القاصد إليه، ولكن مصالح الكبار، تكمن في إدارة الأزمات، لا في حلِّها.
في النهاية تنداح المسافة بين لسان الحال، ولسان المقال. فحال تلك المؤسسات العمل لصالح الكبار، وتهيئة الأجواء الملائمة لنفاذ اللعب، دون احترام لمصداقية، أو تنفيذ لمسؤولية. ولسان المقال هراء كاذب. وتزييف متعمد. وعناوين براقة، يدعيها الجميع، ويخالفونها.
أقول قولي هذا، ولا أزكي على الله أحدا. ولو صدقوا ماعاهدوا عليه، لما رَقَى لهم دمع، ولا أغمضت لهم عين، والمقتولون، والمشردون من الشعوب العربية تجاوزوا الملايين، على مرأى، ومسمع من عشرات المؤسسات الدولية، التي يذرع مناديبها الأرض، جيئةً، وذهاباً، وهم - كما [تأبط شراً] - يتأبطون عشرات الملفات المهترئة.
أملنا الذي لايخيب، أن العاقبة للمتقين. وأن المظلوم منصورٌ، ولو بعد حين. وهذا وعد الله، ووعده الحق.