د. حسن بن فهد الهويمل
قلت، - وأحسبني مضطراً لإعادة القول، حتى تفهمني عشيرتي الأقرب، وكل أبناء وطني من الأقربين، وإن تفلّتت ألسنة لبعض منهم، بما لا يليق.
وكيف لا نتوسل بكل الممكنات لاحتواء..
.. كل من خانه التعبير، أو أربكه التدبير، ورسول الرحمة يقول بحق المشركين، لا المخالفين، ولا المقصرين من قومه:-
{اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنََهُمْ لا يعْلَمُونَ}.
وما من أحد من عشيرتي المخالفين، والمختلفين، والمقترفين من بلغ مبلغ قوم الرسول صلى الله عليه وسلم - قلت:-
كم في [كُتَّابِنا]، و[مغرّدينا]، و[حكواتيينا] من هو أشبه بـ [براقش]. وهي التي هَدَت بصوتها أعداء أهلها عليهم. فأصبحت مثلاً تتوارثه الأجيال:- [على أهلها جنت براقش].
وكم في [مؤسساتنا] من يقترف بعضُ أطرافها، غير الملتزمين بضوابط عملها، ما يُسيء إليها. حتى أصبحنا أمام هذه الهنات بين جزر، ومَدٍّ، ورضى، وسخط.
وحين أضيق ذرعاً بالمناكفات الفضولية، وأدعو [كتّاب الرأي] في بلدي، إلى العمل على توجيه فيوض القول إلى المجهود الحربي، فإنما أسعى لجمع الكلمة. وتوحيد الجهد، والهدف، والصف. والتسامي فوق الأحداث العارضة. والوقوعات التي لم تبلغ حد الظواهر، وإدراك أنّ [لكلِّ مقام مقال].
فالزمن بكل أوجاعه، ومخاتلة أشراره، لا يحتمل مثل هذا التلاسن، ولا يقبل الانطلاق من الانتماءات الضيقة، والرؤى المفضولة، ولا يحبذ تجييش العواطف، وإثارة الرأي العام.
ولاسيما أنّ الدولة بكل ما تحمله، وتتحمله من مسؤوليات جسام، تدير عمليات مصيرية. وتخوض صراعات متعددة. وتغالب رهانات متنوعة، في ساحات الحرب، وقباب الهيئات الدولية.
وحاجتها في أن يكتم الجميع غيظهم، ويعفوا عن بعضهم. ويؤجلوا جدلهم، حول مسائل الاختلاف فيما بينهم.{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
وحين لا نجد القدرة على التسامي، والتسامح، وتبادل حسن الظن، نكون أشبه بـ[فقهاء بيزنطة] الذين يختصمون حول البيضة، والدجاجة، وحصونهم يدكها الأعداء.
أنا لا أنكر أنّ هناك تجاوزات، وأخطاء، ولكن جُلَّها لما يبلغ حد الظواهر. وحين تكون في إطار الوقوعات العارضة، فإنّ ذلك لا يستدعي التداعي، وتهييج الرأي العام، وتقليب الأمور. عبر الكلمات، والتغريدات، و[الهاشتاقات/ الوَسْم]، لأنّ ذلك كله يدخل في باب [إيقاظ الفتن النائمة]. ونحن نعرف قسوة الوعيد لمن أيقظها.
ودائرة الاستياء تنداح حين نكون في زمن تفيض أوعيته بالقيل، والقال. ولاسيما أن بلادنا مغبوطة بتماسك جبهتها الداخلية، ووارف أمنها. مستهدفة من أعداء يكيدون لها، ويتربصون بها الدوائر. {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}.
لقد تذمرت كغيري من الفعل، ورد الفعل، على حد سواء، وبرمت من ارتفاع نبرة التنازع عبر الصحف، والمواقع، لمجرد وقوعات محتملة، لا تُخِلُّ بأمن، ولا تعطل مصلحة. وهي تحت نظر الجهات المعنية، ومتابعتها الدقيقة. ومن الخطأ، والخطل استباق الأحداث.
ولست هنا بصدد تصعيد الاحتقان، بحيث أنحي باللائمة على أي طرف من أطراف التنازع. وإن وعيت ما تحت السطور، وعرفت البعض من لحن القول. والله وحده الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
ذلك أنّ هدفي الذي أسعى إليه، يتمثل في فك الاشتباك، وحقن الأحبار، وكف الألسن، من كل الأطراف، حتى يأذن الله بانفراج الأزمات المحدقة بالأمة، وانكشاف الغمة، وفراغ الدولة من الجبهات الملتهبة.
ما يبعث على الاطمئنان أنّ مثيرات الاختلاف تحت نظر السلطات المخولة، وسيطرتها.
ومهما كانت مصادرها: دينية، أو مدنية، فردية، أو مؤسساتية، فإنها ستظل تحت المحاكمة، والمساءلة. وما علينا إلا الانتظار، والترقب.
وعلى المتابعين تمكين الجهات الأمنية، والقضائية فرصة كافية، لاستكمال متطلبات الوقوعات كافة، وحسمها بالعدل.
الشعب السعودي كأي شعب عربي، فيه أطياف متشاكسون، ولكل طيف رؤيته، وأولوياته، واهتماماته، وقناعاته، وحرصه على توسيع رقعة وجوده، وتكثير سواده.
ومتى استطاعت الأطياف إدارة اختلافاتها بالحكمة، والأناة. والتفسح للآخر. والاعتراف بحق الوجود الكريم، لكل مجتهد، يمتلك حق الاجتهاد. والأداء على قدم المساواة، في إطار الثوابت، والمسلّمات، التي تراها الدولة من خلال كافة مؤسساتها القائمة، أصبح من الممكن ضمان السلامة في ظل التعددية.
لقد أوجف الكتّاب، وضجت المواقع، واشتعل التنازع، بما لا يليق بكل الأطراف، حول وقوعات: أخلاقية، وجنائية، تَحْدثُ في كل عصر، ومصر.
وكل الناس خطاؤون. والخيرية في مبادرة الإنابة. ومن بُلِي، فليستتر، ومن بدت صفحته حُدَّ. ومن أغلق عليه بابه، فهو مستتر. وهذا كله من المعلوم من الدين بالضرورة.
وتوسل البعض بالهنات العارضة، لتحقيق الانتصار، دون البحث عن الحق، من المخالفات، والمغالطات.
وما كنت أود سيطرة العواطف على قضايا، لها جهاتها الرقابية، والقضائية، والأمنية. وهي لمَّا تزل تحت إجراءات التحقيق، والإثبات، والمعاينة، والمرافعات.
والتعجل في الأمور، وتوظيفها للأهواء، والشهوات، من مؤشرات الفشل، وذهاب الريح.
وهذه التجاذبات تسيء إلى كل الأطراف، وتحرض على إشاعة ما كان، وما لم يكن. وتضخم الوقوعات، وتهولها و:-
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}.
إنّ استعداء الرأي العام، وإثارته، من المقترفات التي لا تليق بالدهماء، فضلاً عن الصفوة.
و[العقل الجَمْعي] حين يُحَرَّض، يفقد صوابه. ومن استفز الرأي العام، فليستعد لمخاتلته، وفِخَاخِه.
لقد لفت نظري ذلك الاهتياج غير المبرر، والتلاسن غير الرشيد، حول مقترفات فردية، متوقعة، لا تطال المؤسسات، ولا تقلل من أهمية الشعائر. ولا تستدعي المطالبة بالتصفية، فضلاً عن المساءلة.
فكل من اقترف خطيئة، لا يَحمل غيره جرائرها، فرداً كان، أو مؤسسة، أو شعيرة:- {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
ولما لم يكن هناك حصانة، ولا عصمة لأي إنسان، ولا لأي مؤسسة، فإن واجب المتابعين التخلية بين كل الأطراف المقترفة من جهة، والإدارات الحقوقية، والقضائية، والأمنية، والرقابية، من جهة أخرى، للفصل بين الجاني، والمجني عليه. وذلك من أبسط الحقوق، وأوضح الإجراءات.
وحين تَحِيد الإجراءات، أو الأحكام عن جادة الصواب، فإنه يكون لكل حدث حديث.
ومن باب التحفظ فأنا لست مع أي طرف، فالأخطاء مشتركة، وإن كانت متفاوتة. أنا مع الأمن، والاستقرار، وتلاحم الجبهة الداخلية، والتعاذر، وحسن الظن، وتمكين المؤسسات المعنية من استكمال متطلبات القضايا، والبت فيها، على ضوء المقاصد الإسلامية، المتمثلة بدرء الحدود بالشبهات.
فالذين يَسْتَعْدون السلطة على المؤسسات، مخطئون.
والذين يجيشون الرأي العام على الخَطَّائِين، مخطئون.
والذين يزكّون المخطئين من المنتمين إلى المؤسسات، أو المذنبين من العامة مخطئون.
والذين ينتزعون الأحداث من سياقاتها، ويوهمون الرأي العام بالتدليس، والتهويل، مخطئون.
والذين يُقْصُون الآخر، ويحتكرون الحقيقة، مخطئون.
ولكن يجب أن يعرف الجميع مستويات الأخطاء، وخطورتها.
إنّ للنوازل إدارتها، وحسن التصرف معها. وليس كل ما يقال، عَبْر أي وسيلة، يكون تعبيراً مشروعاً. وما كل إدارة للأزمات مُصيبة.
إنّ ما نسمع، ونرى في ظل الظروف الضاغطة، تَعَجُّلٌ للأحكام، قبل أوانها. وبودي لو يعرف المتناجون خطر التناجي غير المُرَشَّدِ، وغير المنضبط. فليس كل مباح ممكن.
ولا سيما أنّ الأمة تمر بأوضاع تستدعي التوقف، حتى عن المباح. ومصطلح [حالة الطوارئ] خير شاهد.
الظروف المُعاشة، لا تساعد على التصعيد، وتأجيج المشاعر. لأننا في سياقنا العربي نعيش أجواء ملتهبة، بلغت الدرك الأسفل من الضياع، والفوضى.
وبلادنا، وقادتها يستبقون الخيرات، ويودون الخروج من عنق الزجاجة بأقل التكاليف. وواجبنا تهيئة الأجواء الملائمة، ليبلغوا بالبلاد، والعباد شاطئ السلامة.
نحن في هذه الواقعة المثيرة، وما يشابهها أمام [شعيرة]، و[مؤسسة]. ويقابلهما [مسؤول]، و[مواطن] متهمان، لمّا تزل قضيتهما في ذمة التحقيق.
والمستفيض على الألسن: [أن المتهم بريء، حتى تثبت إدانته]، ومن ثم لا يجوز القطع بإدانة أحدهما، حتى تثبت شرعاً. هذا فضلاً عن التشهير. فنحن أمام مخالفة شرعية، لا أحد يجد لها مبرراً.
ونحن أمام ضجيج تؤججه العواطف الجياشة، واستعداء تؤزه الأهواء الجامحة، وإدانات متبادلة، سبقت وقتها. وأعْطت فرصة للرأي العام، كي يُحمِّل المتهم من الطرفين ما لا يحتمل، ويتعنَّت في تبرير تصرف الطرف الآخر.
قلت:- إننا أمام شعيرة تتحقق فيها الخيرية، والتمكين. ويُتَّقَى فيها اللعن، والخُسْر كما جاء في محكم التنزيل.
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، و{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ}... {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وأمام مؤسسة هي [الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر].
وأمام فرد، أو أفراد ينتمون إلى هذه المؤسسة.
وأمام واقعة، لمَّا تحسم قضائياً.
والمصداقية، والعدل، والتَّبيُّن كلها تستدعي الفصل بين تصرف المسؤول، ومُهمة المنشأة، وركنية الشعيرة.
فالخلط بين هذه الأطراف، تجر قدم [الرأي العام] لخوض المعترك، والدفاع عن الشعيرة، وربطها العضوي بالمؤسسة، وأفرادها. وفي هذه مخالفة واضحة.
فالشعيرة ركن، فوق كل اختلاف، ولا يجوز المساس بها، ولا المزايدة عليها. وما سواها خاضع للمحاسبة، والمساءلة.
وعسى ألا يوجد بيننا من لا يفرق بين هذه المستويات.
ولغطنا في ظل أوضاع إقليمية، لا تحتمل تصعيد المناكفات، وأمام أطراف لا يجوز الخلط بينها، يستدعي التدخل، لإصلاح ذات البين، على مبدأ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ..}.
وعلى المقتدرين إصلاح ذات البين، مع احترام المصداقية، والموضوعية، وتحكيم النص، والعقل، وتنحية العواطف، والأهواء، والانتماءات الضيقة.
ثم إننا في كل تجاذباتنا، بحاجة إلى معرفة محققات [الذات]. والتصرف على ضوء ما هي عليه.
فـ[المملكة العربية السعودية] دولة شرفها الله بخدمة المقدسات، وهذه خصوصية لم تتأت لأي دولة إسلامية.
ومُؤَسِّسُها -رحمه الله- أراد لها أن تقوم على المحجة البيضاء. ليُسَلِّم لها الرأي العالمي الإسلامي، ويمنحها التقدير، والثقة، والاطمئنان.
وتحقيقاً لمسؤوليتها العالمية، فقد أحاطها رحمه الله بمؤسسات دينية، تكفل لها كل مقومات الوجود الكريم. فلنتعهد هذه المؤسسات، بما يحقق لها الأداء السليم، ومواكبة المرحلة، بكل مستجداتها: الحضارية، والمدنية.
- فهلا نُجيب داعي الوفاق، وندرأ عن جبهتنا الداخلية فضول التنازع؟