أ. د.عثمان بن صالح العامر
أحياناً تلازمك فكرة وتدور في مخيلتك صورة لا تستطيع أن تمحوها وتزيل معالمها من رأسك، ومن ثم تتجاوز ما لازمك وتتغلب عليه إلا حين تبثه في مثل هذه الزاوية؛ ليقرأه ويتعرف غيرك على ما شَغلك، علّه أن يشاركك التفكير فيه.. طوابير الانتظار كانت هي القاسم المشترك فيما عنّ لي هذا المساء.
* عندما تقف خلف أناس جاءوا قبلك ومروا بالمكان نفسه الذي أنت واقف فيه الآن.
* عندما تأتي على خُطى أناس عاشوا في ذات الأرض، سكنوها، زرعوها، عمّروها، ثم دفنوا فيها.
* حينما تدخل قاعة الانتظار وتُعطى رقماً متأخراً ويطلب منك أن تجلس حتى يأتي دورك للدخول إلى الطبيب، أو لتقدم لك خدمة الحجز، أو خدمات ما بعد البيع، لا فرق بين صغير وكبير، متعلم وجاهل ، رجل وامرأة.
* تسلّمك بطاقة صعود الطائرة، دخولك بابها، وقوفك أمام موظفي الجوازات، تسلّمك أمتعتك الشخصية...
* عندما تقف عند إشارة المرور وتنظر عن يمينك ويسارك، الكل واقف ينتظر دوره في الانطلاق وصولاً لنقطة النهاية التي هدفه بلوغها هذه اللحظة.
* حينما تقف في طابور المعزّين.. المسلّمين.. المودّعين.. المستقبلين.. المباركين.
* في كل هذه المواقف - وغيرها كثير - يجب أن يكون الدرس الذي عليك أن تحفظه وتُحفّظه ذرِّيتك من بعدك، أنك في النهاية لا تعدو أن تكون رقماً من الأرقام التي تنتظم في طابور الأحياء، لم ولن تتوقف الدنيا على وجودك يوماً ما، فكما سبقك أناس سيأتي على عقبك آخرون، ربما يقدمون أكثر مما أعطيت ويبدعون أفضل مما صنعت، ولكن لا تنسى أنك وحدك في النهاية من يحدد أين يكون هذا الرقم، حتى ولو كان صفراً، وما هي الصفة المثلى التي يكتب عليها.
* كثيرون منا يرفضون أن يكونوا في الطابور، يعتقدون أنّ وجودهم ضمن عامة الناس يقلل من شأنهم ويذهب هيبتهم، ونسي هؤلاء وأولئك أنهم في النهاية سيكونون في الطابور، ولا يدري الإنسان منا كم سيكون رقمه الذي ينتظره صمن منظومة الراحلين عن دنيا الناس.
* أجزم أنّ للطابور ثقافة نفتقدها، وللمصطفّين فيه سمات نتمنى الاتصاف بها، وأولها وأهمها الصبر واحترام الآخرين، والشعور بحق الآخرين الذي هو واجب عندك، كما أن حقك واجب لدى الآخرين وتتمنى أن تناله كاملاً غير منقوص.
* هل شعرت بالمرارة يوماً ما وأنت تقف في الطابور ومعك رقمك الذي تقلّبه بيديك، وتقرؤه مرة تلو أخرى، وفجأة وأنت تتململ في مكانك يدخل شخص فيتجاوز الجميع ليقف على الطاولة أو الشباك ويأخذ مبتغاه وأنت تنظر!!
* إنّ أهم درس من طابور الانتظار أنك في النهاية ستعود كما كنت حين ولادتك، مجرد رقم يسجل في دفاتر المواليد لتكون رقماً جديداً في سجل الراحلين، فكيف كنت أنت حين وقفت في طابور الانتظار ضمن منظومة المصطفّين الفاعلين في هذه الحياة الصاخبة التي تقلّبنا بها ذات اليمين تارة وذات الشمال تارات، دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.