سهام القحطاني
يمكن وفق التوثيقات التاريخية القول بأن الدولة الصفوية التي استقرت في إيران تُعتبر أول دولة شيعية بالمفهوم السياسي المتكامل، ووفق تلك الريادة أصبحت هي الراعي الرسمي للهوية الشيعية سياسياً وفكرياً وفقهياً، وأصبحت قبلة للشيعة سواء المضطهدين أو الراغبين في الانضمام إلى كيان يحقق لهم أمن الوحدة الشعورية والحرية العقدية الصريحة أولاً ثم الوحدة المكانية التي تحررهم من لعنة السرية والخفاء.
ثم تتالت الدول الشيعة التي احتفظت بإيران كدولة شيعة خالصة مستقلة عن الدولة العثمانية ذات المذهب السني، وهنا أصبحت إيران معادلاً موازياً للدولة العثمانية السنية.
إذن إيران في الوجدان الشيعي ليست مجرد دولة إنما هي ممثلة لتاريخ هوية الشيعة بصرف النظر عن جغرافية وجوده ولغتها وسياستها، وذلك الارتباط الوجداني الشيعي لإيران التاريخ والهوية أولاً وأخيراً، وليس لإيران الأشخاص، لا يمكن قطعه أو المقايضة عليه.
بعد تصاعد حركة الإحياء السني في الجزيرة العربية من خلال الدعوة السلفية للشيخ محمد بن عبد الوهاب،
وإعادة إحياء أفكار ابن تيمية الفقهية بما فيها تلك الأفكار التي تتعلق بالشيعة، حتى إن البعض يعتبر الشيخ محمد عبد الوهاب «المهندس الأول لعلاقة الصراع بين السنة والشيعة».
وفي هذه الأجواء التي كانت تزحف نحو صراع دموي بين السنة والشيعة سيضاف لتاريخ علاقتهما، وكانت على الطرف الآخر دولة الشاه في إيران الراعي الرسمي للشيعة غارقة في الترف والبذخ متراجعة عن رعاية حقوق الشيعة خارج حدودها.
لذلك وجدت شيعة السعودية بخاصة والخليج عامة في خضم تزايد السلطة الفقهية الوهابية أفضل حل لتجنب أي صراع دموي بينها وبين التيار السلفي الجديد الانسحاب من دائرة الضوء والتمحور حول الذات وفرض عزلة كلية تفصلها عن مجتمع المذهب الغالب حتى أصبحت تعيش في مجتمع أشبه «بالجيتوهات».
واستمرت عزلة سنة الشيعة في السعودية حتى ظهور «الثورة الإسلامية» في إيران.
وتلك الثورة أعادت توزيع القوى المذهبية في منطقة الخليج، وأخرجت الشيعة من عزلتهم، وأعادت إيران إلى منطقها القديم بأنها الراعي الرسمي لحقوق الشيعة في أي مكان، وبهذا المنطق شرّعت لنفسها التدخل في شؤون دول الجوار بحجة حماية استحقاقات الشيعة.
«بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران دخلت المنطقة وضعاً جديداً، وأصبحت التعبئة الطائفية جزءاً من الصراع في المنطقة، فالشيعة ارتفعت معنوياتهم وبدأوا يسمعون لإذاعة الجمهورية الإسلامية في إيران ويتفاعلون مع ما يطرح هناك، ومن ناحية أخرى كان السنة يشحنون ضد الشيعة دينياً وثقافياً من خلال الخطب والفتاوى في تلك الفترة، وهذا كله أوجد هذا التشنج الذي يشكو منه الواعون والمخلصون من الطرفين». كما يقول حسن الصفار.
وحتى تستطيع إيران إيجاد وسيلة اتصال ثابتة بينها وبين رعاياها الشيعة في دول الخليج بدأت في ترهيص قواعد لحركات مناهضة في تلك الدول لتستثمرها كورقة ضغط حيناً وإرهاب حيناً آخر على حكومات دول الخليج.
لا شك أن حكومات الخليج التي كانت حليفاً للشاه لم تكن فرِحة لظهور ثورة إسلامية في إيران وانتصارها على حكم الشاه، ويمكن أن نحدد ثلاثة أسباب لهذه الحالة منها.
1 - وصول رجل دين للسلطة.
إن الانقلابات والثورات التي ظهرت في الدول العربية قبل الثورة الإيرانية جاءت بحكام ينتمون إلى العسكر، لكن أن يصل رجل دين إلى الحكم بعد قيادته لثورة، لم تتقبلها حكومات الخليج لأمر من أمرين:
* إما لمخالفتها للعرف السياسي الذي تربت عليه العقلية العربية، تلك العقلية المتربية على الحكم العضدي أو المتوارث، لكن أن يأتي رجل لا يملك تاريخاً عضدياً أو سلاليّاً إلى الحكم، فهذا يعني تهديداً لأعراف توارث الحكم في المنطقة.
* أو التوجس من الآثار المرتبة على وصول رجل دين للحكم
صحيح أن هناك اختلافاً في مؤسِسات الفهم السياسي بين الشيعي والسني، فالشيعي يؤمن أن لا حاكم في ظل غياب الإمام وأن كل من يحكم هو نائب عنه، ومن هنا جاءت فكرة ولاية الفقيه التي سنّها قائدة الثورة الإيرانية الخميني، وتلك الولاية تدعو إلى «تولي السلطة السياسية بشكل مباشر من قِبل رجال الدين، كونهم الأكثر معرفة بالقانون الإلهي».
وقد هاجم الخميني كل من رفض تولي رجل الدين الحكم وقال: «لا تصغوا لأولئك المعارضين لنهج الإسلام الذين يعتبرون أنفسهم متنورين، ومن يناوِئون حكومة الفقهاء، لن يكون سوى الطاغوت بديلاً عنها».
لكن بوادر ظهور حركة دينية منشقة من عباءة الوهابية المعتدلة كانت تلوح في جو دول الخليج وبخاصة السعودية التي كانت تتوسع في أفكارها الحضارية وهو ما كان الجانب المتشدد المنشق عن الوهابية المعتدلة يرفضه ويحرض أتباعه على الثورة عليه.
ثم جاء صراع الاتحاد السوفيتي مع أفغانستان فكان سبيل إنقاذ للسعودية تصدير أتباع ذلك الفكر السلفي الانشقاقي المتشدد إلى أفغانستان وشجعت أصحاب الأفكار المتطرفة الانشقاقية للهجرة إليها بحجة وجوبية الجهاد وحماية المسلمين، ولم تكن تعلم أن السنوات ستمر «وتعود بضاعتها إليها» أشد وطأة.
2 - الخوف من المجهول الذي يحمله الخميني للمنطقة، لعل من أبرز أسباب نجاح الخميني في ثورته ووصوله لحكم إيراني إستراتيجية الخفاء التي كانت تحيط به سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة.
ولعل تربيته الفقهية في مؤسسة دينية تميل إلى التقليدية تحت قيادة آية الله محمد حسين بروجردي، ثم نفيه أربعة عشر عاماً أسهمت في تحقيق تغطية أفكار الخميني.
3 - ديننة الحكم الإيراني؛ صحيح أن دول الخليج سلفية المذهب وتبنت الكثير من أفكار الدعوة الوهابية، لكنها مدنية الحكم، ووجود دولة دينية في المقام الأول بجوارها قد يجّر المنطقة إلى صراع ديني مذهبي وهو ما حدث فعلاً من خلال حرب العراق وإيران.
ولذلك نظر «السعوديون إلى إيران بوصفها خطراً أصولياً داهماً» وخصوصاً بعد أن أعلن الخميني بأن الحاكمية الملكية «تمثل أحد أكثر المظاهر الرجعية المخزيّة والشائنة». وهو تحريض واضح من قِبل الخميني للانقلاب على الأنظمة الملكية والأميرية في المنطقة.
ولعل السعودية حظيت بأكبر نسبة من العداء الإيراني؛ لأنها المقابل الموازي للثورة الدينية في المنطقة، فالدعوة السلفية التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي انتجت إحياء الفكر السلفي وجعلت الشيخ مشاركاً في صناعة القرار السياسي السعودي، وبذلك فالنموذج المستهدف للعداء هو النموذج السعودي.
ولذا أصبحت السعودية هدفاً لهجمات الخميني الحاقدة.
بينما أصبحت إيران بالنسبة للسعودية وفق ما تمتلكه من راديكالية منهجاً لها، العدو الأول لها في المنطقة، وكلتاهما تقفان كوصيين أوليين وشرعيين للسنة والشيعة وقيادة الإسلام العالمي.
وتلك المنافسة هي التي أسست «الأرضية لتوتر العلاقات بينهما».
ولم يتأخر تأثر شيعة الخلج بأفكار الثورة الإيرانية فخرجت مظاهرات شيعية تطالب باستحقاقاتهم في أوائل الثمانينيات في كل من السعودية والبحرين والكويت.
وهو ما شدد صلابة موقف دول الخليج مع إيران، وقطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران،كما أن الفكر التوسعي لإيران كان من أهم أسباب نشأة مجلس التعاون الخليجي، ودعم حرب صدام ضد إيران.
وهذه الديّننة واضحة منذ بدء الخميني ثورته ولتأكيد هذا التوضيح أصبحت الديّننة صفة ثابتة لتلك الثورة التي التصقت «بالإسلامية».
فقد قامت الثورة على الإسلام الثوري المُسيس وهو ما حوّل الإسلام عند الثورة الإيرانية إلى «أيديولوجية مطلقة».