علي الخزيم
(ينالُ الفتى من عيشهِ وهو جاهلٌ
ويُكْدِي الفَتَى في دَهْرِهِ وَهْوَ عَالِمٌ
ولَوْ كانَتِ الأرزَاقُ تَجْري على الحِجَا
هلكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهنَّ البَهَائِمُ)
هذا ما قاله شاعرٌ فحل من شعراء العرب؛ هو حبيب بن أوس الطائيّ، المكنى بأبي تمام، ولمن لا يعرف عنه كثيراً فليبحث عن قصيدته بنصر وفتح عمورية (السيف أصدق أنباء من الكتب)، أو قوله: (نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى)، أعود للبيتين مكان الاستهلال؛ فقد تذكرت معهما قصة فتى لم يبلغ العشرين من عمره تقاذفته الهواجس والظنون والشكوك، وتطوّرت إلى حالة من الرهاب والخوف من كل شيء لا سيما العين والحسد، رغم أنه لا يملك ما يجعله كذلك حسياً ولا معنوياً، اتجه إلى الرقية وبذلك حفظ بعض الأدعية وشاهد وحضر كيف يفعل عدد من الرقاة، وصار كلما لاحظ ما يرى هو أنه يستدعي الرقية يبادر من نفسه دون مقدمات إلى البدء برقيته، فمثلاً يكون واقفاً بطابور مخبز التميس ومع طول الصف يعتقد أن صاحب المحل أو الخباز مُعرّض للحسد فيبدأ بالقراءة والنفث عليه بدون إذنه أو إشعاره، حتى أنه قد عرّض نفسه لمشكلات متتابعة بينها الإهانة والضرب قبل أن يكتشف الطرف الآخر سذاجته ونيته المختلفة، يدخل محلاً كبيراً للفواكه والخضار وزبائنه كثر فتخالجه الهواجس أن المحل معرض للسرقة أو الحريق وغيره بسبب عيون الحاسدين، فيقف بين المحاسبين ويأخذ بالهمهمة والحوقلة ونحوها مما يثير شكوكهم فيستدعون رجال الحراسات فينال نصيبه من الإيذاء على تصرفه الأرعن، مضى زمن غير طويل حتى تولّدت لديه القناعة بأنه مؤهل لأن يمارس الرقية تطوعاً لمن يرغب من الاهل والأصدقاء والجيران بالحي، أيام قلائل كانت كفيلة بجلب أعداد من السيارات تقف أمام منزلهم يطلب أصحابها نساء ورجالاً الرقية، ويضعون بجيبه المقسوم، باختصار الآن هو يملك عدة فروع وتزوج عدداً من النساء من (زبائنه) بذمته أربع منهن علّمهن سر المهنة التي لا تحتاج لشهادات ولا وساطات، وتُدِر المال الوفير بدون أي جهد يذكر، وأقنعهن بأن كل ما تحتاجه المهنة هو المزيد من السُذّج والمُبْتلين بالوساوس والأوهام ولم يعرفوا الطريق للتخلص منها، لتشبثهم بالأساطير وعبث المتاجرين بمصائبهم، هنا يصدق قول أبي تمام بالتمام، وهذا لا يعني أن كل الرقاة متاجرون بالمهنة أو هدفهم الوحيد المال على حساب من يركضون وراء أي سبب للشفاء.
استدلالات (درعمة السُّذج) يمكن قراءتها كذلك من أعداد ونماذج من ساروا وراء مُدعي النبوة العربي مؤخراً، وأنه آخر المُرسلين وتبعه طيارون ومهندسون وأطباء ومعلمون وأساتذة جامعات، وغيرهم من طبقات اجتماعية مختلفة، علمهم وثقافاتهم لم تهدهم إلى حقيقة ضلاله مع كل ما تلقوه في مسيرتهم التعليمية والعلمية من تنوير للعقول والأفئدة، تؤكد أن لا نبي بعد محمد، فكيف نسفوها وانساقوا بجهالة وراء أفّاق مُغرض، يهدم ثقافتهم ويزعزع دينهم، إذا علمنا أحوال البعض مع الراقي المُعْتَل والمتنبي الضال فكيف نفسر فكر المجتمع؟!