د. صالح بن سعد اللحيدان
لا شك أن العلم في أصله موهبة من المواهب الربانية، وليس العلم بدعوى تقوم من هذا أو ذاك، وإلا لأصبح الناس كلهم على هذا المنوال.
والعلم على هذا الأساس كما هو مدون في أسفار المتقدمين من الذين وضعوا الأسس والقواعد إنما هو العلم الذي يقوم على كمال العقل وضخامته وسعة مداركه، مع جانب لا بد منه من الورع والنزاهة وقوة التجرد، فضلاً عن البُعد عن الإنشاء والخطاب المباشر.
ذلك أن العلم على حقيقته إنما يتجه صوب العقل دون نكير.
والذي يقرأ مطولات القروم من سنين خلت يجد أنما سطره هؤلاء كان على وتيرة مختلفة ومتنوعة؛ ذلك أن العقول تختلف وتتمايز؛ فما عند عالم الحديث وما عند الفقيه والنحوي واللغوي والاقتصادي والإداري وكذلك الثقافي كل ذلك يختلف بعضه عن بعض.
وشواهد هذا ما دوّنه الأقدمون خلال المطولات كما هو عند ابن أبي شيبة وابن قتيبة والعيني والذهبي والمستملي والمازري وقوم أجلاء دونهم المترجمون، وحكى عنهم الذين كتبوا عنهم.
وإنما المقصود من هذا القول مني أن العلم يحتاج إلى العقل على وصفه السالف، لا على القلب أو العاطفة، فإن ذلك إن اتكل على القلب أو على أخته يكون أشبه ما يكون بالهماج، وإن كان في بعض ذلك الخير.
ولعل شاهدي أن التجديد النوعي المستحق بالإشادة الحقيقية قد غاب إلا أن في الزوايا خبايا.
لكن المشكلة عند كثير من العلماء أنهم لا يرغبون في الظهور اللهم إلا في دروس خاصة، تعقد بين حين وحين.
ولا يحسن هنا الخلط كما قلت، وأقول دائمًا بين العالم والداعية وبين العالم والواعظ وبين العالم والناصح، وإن كان في كل ذلك الخير، وأحسبهم كذلك.
وإنما تتلاقح العقول، وتثمر، وتنتج حينما نقرأ سير كبار العلماء والنقاد وأهل صناعة الكتابة من ذوي المواهب العالية في التقعيد والتأصيل مما طرحه أبو زرعة الرازي وأبو حاتم والعقيلي والذهبي وابن سعد في الطبقات الكبرى وكذلك ابن حجر والإمام المزي (في تهذيب الكمال)، وكذلك ما صنعه ابن خلدون وسواهم خلق كثير.
وقد عاينت من خلال مشاركاتي في كثير من الندوات والمؤتمرات أن غالب الناس اليوم إلا من شاء الله يميلون إلى الخفيف من العلم لتعلقهم بما يدور حولهم من أخبار في المناحي كافة، وهذا أشغل كثيرًا من الناس حتى بعض المثقفين والعلماء.
وإن كانت متابعة الأخبار وسواها من الناحية العقلية جيدة إلا أن شيئًا لا يجب أن يطغى على شيء.
ولذلك نجد في سورة الإسراء وقبلها سورة الأنعام بيانًا على ما يدور عليه العقل الحر في معرفة أمور العلم وسياسة واقع الحياة منذ عهود خلت.
وقد بيّن ابن جرير وسواه ممن عني بالتفسير والشرح النصي العقلي بحقائق ما يجب أن يكون عليه العالم والمثقف وسواهما في الحياة الدنيا.
ولهذا نجد أن من يستعمل قلبه أو عاطفته في النظر والتدبر والاستقراء، ويغيب عقله، فإنه هنا قد يغيب عنه كثير من الأشياء.
وهناك فئة أعرف كثيرًا منهم يستعملون عقولهم فيما يريدون ولا يريدون، فإذا كل العقل بقصوره في الاستيعاب والنظر لبلوغه الحد المخلوق له هنا يكون الافتراض الذي لا أصل له فيقع في دائرة التحرر، بينما ذلك العبودية من خلال الافتراض الذي يظنه تحررًا.
وهذا ما وقع فيه بعض من ظن أنه قد بلغ ذروة عالية من الفكر والتنظير.
وفي كتاب (أخلاق العلماء) للإمام الأجوري وكذلك وفي كتاب المقدمة لابن خلدون وكذلك في كتاب ابن قيم الجوزية (التعليل) حينما تكلم الأخير عن الخلق والقضاء والقدر ونشأة الحياة نجد أن قارئ هذه الكتب يكون على أحسن حال، ذلك إذا كان في قراءته صبغة حرة مطلقة.
من هذا الباب سوف أترجم لعالم كبير توفي صغيرًا وهو في الخامسة والثلاثين، ومع ذلك سار ذكره وكتبه في الآفاق عبر الليل والنهار.
وإنما أكتفي بترجمته سبيلاً مقيمًا؛ لأن التاريخ قد يتكرر، ويعيد نفسه في مثل هذا الحين الذي نحتاج إلى مثله. وهذا الإمام بعلمه وبعقله وبرأيه على صغر سنه لا يكاد يعرف إلا بلقبه (ابن عبدالهادي).
لكن إليكم خبر هذا العالم الجليل الذي مال إلى الانزواء والانطواء، ونال حسدًا وبغيًا من بعض أقاربه الذين هم أكبر منه سنًّا، لكن يأبى الله إلا أن يفعل ما يريد.
وإليكم ابن عبدالهادي.
هو محمد بن أحمد بن عبدالهادي بن عبدالحميد بن عبدالهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة.
لم يهاجر جده يوسف مع أخيه أحمد يوم هاجر إلى دمشق بل إن ابنيه عبدالملك وعبدالهادي ظلا يترددان بين جماعيل والصالحية سنين طويلة حتى عزم عبدالهادي أمره أخيرًا، وقدم إلى دمشق مهاجرًا مع ابنيه محمد وعبدالحميد نحو سنة (582هـ)، أي بعد هجرة عمه أحمد بنحو ثلاثين سنة, وقبل فتح صلاح الدين المقدس بسنة واحدة.
وقد أصبح عبدالحميد فيما بعد من كبار علماء عصره، وتخرج به كثير من المحدثين ممن صار بعضهم شيخًا لحفيده محمد. وقد افتتح مكتبًا في القصاعين للتعليم, وتوفي سنة (658هـ) مخلفًا ثلاثة أولاد، هم: أحمد ومحمد وعبدالهادي.
أما أحمد فقد كان من أعيان المسندين في زمانه، وقصد بالزيارة، وتوفي سنة (700هـ) وله ثمان وثمانون سنة.
وأما عبدالهادي فهو الجد الأدنى للمؤلف، توفِّي شابًّا سنة (682هـ) عن بضع وثلاثين سنة مخلفًا ولدَيْن، هما: محمد وأحمد.
وأحمد هو والد المؤلف، وكان زاهدًا مقرئًا مسندًا، سمع عنه ابن رافع والحسيني وابن رجب، وتوفي سنه (752هـ) وله إحدى وثمانون سنة، أي بعد وفاة ابنه محمد (المؤلف) بثماني سنين. وقد خلف من الأولاد: عبدالرحمن وأبا بكر وإبراهيم وحسنا. وتوفي عبدالرحمن سنة (789هـ) وأبو بكر سنة (799هـ)، وهو ممن أجاز لابن حجر وإبراهيم سنة (800هـ)، وسمع منه ابن حجر أيضًا.
في هذه الأسرة العريقة علم وفضل وصلاح ورواية. ولد محمد بن أحمد بن عبدالهادي سنة (705هـ) على أرجح الأقوال في الصالحية لأب من العلماء المسندين المقرئين. وكشأن كل أب عالم يطمح إلى أن يكون ابنه محدثًا ذا إسناد عال.
سعى به إلى كبار مسندي عصره، فسمع من زينب ابنة الشيخ كمال الدين الصالحية، وكانت قد تفردت بغالب إجازاتها، وهي آخر من روى في الدنيا عن سبط السلفي.
وحين توفيت نزل الناس بموتها درجة. وسمع من عيسى المطعم المتوفي سنة (717هـ) وله إحدى وتسعون سنة، ومن أبي بكر أحمد بن عبدالدائم الصالحي وهو شيخ لابن تيمية أيضًا المتوفي سنة (718هـ) وله ثلاث وتسعون سنة، ومن سعدالدين يحيى بن محمد بن سعد المتوفي سنة (721هـ) وقد جاوز التسعين. وكل ممن تفرد بأجزاء من العوالي.
وسمع أيضًا من أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجاز وهو من المعمرين، رحل الناس إليه سنة (717هـ)، وتوفي سنة (730هـ)، ونزل الناس بموته درجة.
وأكثر عن محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء وابن الزراد، وهو ممن تفرد، ومات سنة (726هـ)، وقرأ بنفسه (صحيح مسلم) على القاضي شرف الدين عبدالله بن الحسن، وهو من حفدة المحدث عبدالغني المقدسي، وممن تفرد وعمر، وتوفي سنة (732هـ).
ولي عودة إن شاء الله.