د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
فقد العالم قبل أيام شخصية فريدة قلما جاد الزمن بمثلها وهي المعمارية العربية «زها حديد» بعد عمر حافل بالنضال المهني، والعبقرية الفنية والمعمارية. ووصفي لها بالمعمارية العربية نابع من إصرارها الدائم، رحمها الله،
على التصريح بأنها عربية قبل كل شيء في كل مرة يراوغ المذيعون والصحفيون الذين يقابلونها بوصفها «البريطانية الجنسية، العراقية المولد»، أو وصفها بالعراقية فقط، لأن العنصرية الغربية التي تراكمت عبر السنين تربط وصف «عربي» بكل ما هو سيئ ومتوحش وتنأ به عن كل ما هو جيد ومبدع. فعندما يسيء العربي فهو عربي بطبعه، وعندما يحسن ويجيد فهو مصري، عراقي، فلسطيني... إلخ.
وقد فطنت رحمها الله لذلك وكانت تريد عكس هذا المعادلة. ثم أن جزءاً كبيراً من نضال زها حديد ينبع من كونها كما قالت: امرأة في مهنة تعد أساساً للرجال.
عرفت لأول مرة عن زها حديد في عام 1995 عندما كنت طالباً في «إدنبره» في اسكتلندا، حيث كان هناك أيضاً قسماً للعمارة به أستاذ يشرف على أكثر من 20 طالباً سعودياً في الجامعة. وكان مقر القسم جزء من مبنى تراثي عتيق تتوزع فيه مراسم الطلاب ومكاتبهم في رواقات صغيرة تكثر فيها المناور الزجاجية وتفوح منه رائح الخشب العتيق الذي يغري الزائر بالتجول ومحاولة الاطلاع على هذا المجال المهم. وكنا نتشارك مع العمارة والأدب والفن في كثير من المفاهيم الفلسفية: كالحداثة، وما بعد الحداثة، والوضعية، والوظيفية، والكونية والمحلية، والتقليدية والعامية إلى آخر ذلك من المفاهيم.
وقد لفت نظري حينئذٍ مقال في صحيفة القارديان البريطانية عن جدل حول تصميم معماري قدمته معمارية عراقية بريطانية وتم رفضه بطريقة تشي بعنصرية بغيضة من قبل اللورد «كريكهاويل» رئيس بلدية مدينة كارديف عاصمة ويلز، ورئيس لجنة مسابقة اختيار التصاميم لدار أوبرا تزمع كادريف بنائها. ففازت حديد بمسابقة التصميم فلم يرق ذلك لهذا اللورد العنصري عندما علم أنها عربية، فطلب بإعادة المسابقة للمرة الثانية فأجمع المهندسون من أعضاء اللجنة على حديد مرة أخرى، فطلب إعادة المسابقة للمرة الثالثة بحجة إتاحة الفرصة للمعماريين: البريطاني المشهور نورمان فوستر (مصمم مبنى الفيصلية)، ومانفريدو نيكوليتي (معماري إيطالي ذاع صيته في التصاميم المتوافقة مع البيئة) للتقدم بتصاميمهم بعد مراجعتها، فتمت إعادة المسابقة وفازت بها حديد للمرة الثالثة، وجن جنون كريكهاول العنصري فألغي المشروع كاملاً بحجة أنه «مشروع نخبوي» لا يلائم كارديف الشعبية واستبدله بمشروع ملعب كرة، فجن جنون الصحافة البريطانية. وفيما بعد قالت حديد إن هذا التحيز كاد أن يدمرها في بداية صعودها، لكنه زادها إصراراً لكسر احتكار هذا المجال من قبل الرجال، وهي التي كانت ترى دائماً أن الكثير من الناس ليس لديهم إمكانيات السفر للاستمتاع بمعالم العالم، ولذا يجب أن تقرب العمارة هذه المعالم والإبداعات لهم وأن مشروعها لم يكن نخبوياً لأنها تصمم للبسطاء. ولذا صممت بعض المدارس والكليات في محيطها بأسلوب إبداعي جعلها أماكن يرغب الناس ارتيادها.
قبل شهر من وفاتها منحتها الملكة اليزابيث جائزة «المعهد الملكي للعمارة» وهي أعلى جائزة بريطانية للعمارة، وكانت زها حديد أو امرأة تحصل عليها منفردة، وتم منحها لقب «Dame» سيدة وهو لقب يعادل Sir الذي كان يحمله كريهاويل، وكانت قبل ذلك أو معمارية تحصل على جائزة «بريتزكر» الشهيرة. ولا شك أن زها حديد انتزعت هذا الألقاب انتزاعاً ومن أوساط فيها الكثير من التمييز سواء ضد العرب أو النساء. وهذا بالطبع لم يأت من فراغ بل من أكثر من ألف معلم معماري زرعته في 45 مدينة من كبريات مدن العالم، وكان آخرها تصميم جريء جداً لمطار بكين الذي سيستوعب 45 مليون مسافر. وتنوعت مشروعاتها وتصاميمها من حيث الوظيفة، والحجم، والبيئة وامتدت من المدارس، ومحطات القطارات، إلى الأبراج والمعارض والأحياء والمطارات.
ومنذ عام 1995 جابت شهرة حديد الآفاق وكنت أتساءل لما لا تمنح زها حديد تصاميم مشروعات عربية، وتم منحها والحمد لله العديد من المشروعات في أبو ظبي، والسعودية ومصر، ومنها تصميم محطة قطار مشروع الملك عبدالله المالي في الرياض، ومركز الملك عبدالله الثقافي في الدمام، ومركز الملك عبدالله للدراسات البترولية. ومن شاهد هذه المشروعات لن تخطئ عينه التأثير البيئي في تصميمها، فمشروع الملك عبدالله الثقافي يشخص كمجموعة من الصخور في وسط الصحراء، ومحطة قطارات الميترو تحاكي كثبان الرمل، ومركز الدراسات البترولية يبرز على شكل مجموعة خيام مستقبلية في وسط محيطه الصحراوي، ويقال أن تصميمه الداخلي استوحي من آثار البتراء ومدائن صالح. وهنا تبرز عبقرية حديد في استلهام المفاهيم التراثية والبيئية في تصاميم تتجاوز الماضي والحاضر للمستقبل. وهي تبرز أن التراث والبيئة يتضمنان أبعاد مفاهيم إبداعية لا حدود لها. كما أنها تصريح بأن الماضي يستطيع استيعاب المستقبل ويفي بوظائف الحاضر.
جميع مشروعات حديد تحولت لمعالم معمارية وهي على قيد الحياة، وجميعها مشروعات توحي رؤيتها من الخارج برغبة ملحة للولوج فيها للداخل. وقد حار النقاد في تصنيف أسلوب معمار زها حديد فمنهم من صنفها على أنها تنتمي لما بعد الحداثة لتجازوها الأشكال الهندسية التي أتت بها الحداثة، وكذلك مفاهيم المدرسة الوظيفية، والجشتالت. والأخيرة ترى ميول ونزعة إنسانية كونية لبعض الأشكال تجعلها أكثر راحة وألفة، فجأت تصاميم حديد لتتجاوزها إلى تصاميم لا أشكال محددة لها بالرغم من أنها قد تستوحي من أشكال مألوفة. فتصاميمها تتعمد إذابة الأشكال المألوفة في خطوط مائلة وكتل تموج بالحركة والديناميكية وقادرة على الإدهاش. فمن يشاهد تصاميم حديد يدرك أسلوبها وطابعها فوراً، ولكنه لا يستطيع تذكر تفاصيل المشروع لأنه تتجدد دائما مع حركتها وانسيابيتها. ومن النقاد من يرى حديد جزء من مدرسة جديد سميت «بالمستقبلية الجديدة» لأن تصاميمها تتجاوز الحاضر وتحاكي المستقبل دائماً. وفي رأي حديد، فإن العمارة يجب أن تتسم بالتجدد الدائم لسبر أمكانيات جديدة تماماً للتعامل مع الفراغات، وإيجاد معالم جديدة كلياً.
أما الفراغات الداخلية فهي مفتوحة دائماً على الخارج وتتجدد باستمرار، وهي تمتد للداخل بأفنية وتعرجات وخطوط مائلة تنساب في بعضها في انسجام مريح لكنها لا تتجانس ولا تتناظر فيما بينها، فتشكل فراغات متجددة تنقل الزائر لآفاق إبداعية عندما يدخلها الزائر لا يمكنه توقع ما بعدها. فالولوج للفراغ، في مفهوم حديد، أشبه برحلة استكشاف في المستقبل ولا عجب في ذلك فالعمارة بالنسبة لحديد رحلة استشكاف دائمة. والمهم هو تغيير مفهوم الفراغ ليس معماريا فحسب بل ثقافيا واجتماعيا، فزها حديد لم تكن نخبوية كما اتهمت بدايةً، بل إنها كما صرحت، ترغب في تقريب النخبوية لا شعورياً للجماهير للاستمتاع بها، فالناس تحس بشعرية المكان قبل أن تتعمق في مفاهيمه. فالمعمار بالنسبة لها استكشاف متواصل وإبداع دائم لغير المألوف.
وربما يكمن سر نجاح وإبداع حديد في انتباهها المبكر لإمكانيات التصميم الرقمي والخيال الحاسوبي في التصميم المعماري، وفي متابعتها لآفاق التقنيات والصناعات في كافة المجالات الإنشائية، وهي في ذلك تشبه مبدع أجهزة الحاسوب ستيف جوبز، إلا أنها تفوق عليه بقدرتها غير المحدودة على الإبداع. ولا شك إن زها حديد غيرت معالم العمارة للأبد ولا غرابة في تسميتها بـ «ملكة العمارة غير المتوجة». رحمك الله يا زها حديد فأنت شاهد على أن إسهامات العرب في الحضارة البشرية معين لا ينضب. ولعلك تضيئين شمعة للشباب العربي في توجههم للمستقبل في ظروف غرق الكثير منهم في ظلمة الماضي.