د.فوزية أبو خالد
أرى وأعلم أن هناك من قد لا يوافقني الرأي بأن الخروج على مختلف أخاديدي الماضي السحيق والقريب التي تسقط الأمة العربية في وهادها وبين براثنها اليوم سواء بالملاحقة الاستيهامية لماكان من أمجاد أو بالخمول التاريخي بين الأطلال، لن يكون بالمراوحة بين الإصرار على عودة الماضي أو البقاء بجانبه. و كما أن الخروج من ذلك الماضي والخروج على الصراعات فيه لن يتحقق بإعادة اختراع العجلة فإنه لن يصير بنقض الغزل.
وفي هذا فإن الخروج بالمجتمعات على مآلات الجمود المهدد للهوية بل للوجود يحتاج دون تردد إلى طيش الشباب الإيجابي وإلى تمرده التجديدي وإلى حسه المغامر وإلى جرأته على الإقدام وشغفه بالمبادرة وإلى شجاعته في التجريب وإلى عشقه للاستكشاف وفضوله في طرح الأسئلة بالقدر الذي يحتاج لمعرفته في شتى أنواع العلوم الإنسانية والطبيعية من الرياضة إلى الذرة ومن السياسة إلى المحاسبة ومن الطب إلى القانون ومن التاريخ إلى علم المستقبل ومن العمل اليدوي البسيط إلى العمل الآلي المركب والعمل النظري بعلاقتيه بالميداني وبالمطلق. غير أن وجود هذه القوة الشبابية بخصائصها المتوثبة لن يسمح بالخروج من عنق زجاجة الماضي أو التخلف ما لم تنخرط هذه القوة في قلب الحدث ومالم يفسح لها مكانا فعالا في العمل. الا أن قوة الشباب لن يسمح دخولها إلى معترك العمل بخروجنا من خلف أجمة التحجر فيما لو بقيت محاولات شأف عنفوان الشباب وتقليم أظافره هاجسا مضمرا ومعلنا في الكثير من منظمات استقطاب الشباب والأنكى لو بقي التخلي عن الخصائص الفوارة لمرحلة الشباب من العمر شرطا من شروط معظم المؤسسات المعنية ومؤسسات الدولة والمجتمع ككل لقبولهم بها.
وهذا يستدعي المقابل الموضوعي الآخر لقدرة الشباب التجريبية على التجديد وهو وجود قوى الخبرة القادرة على مجارات طاقة التجديد الشبابية فلا تتحول إلى أبوية وصائية معيقة ولاتصير مصدرا آخر لصراع القوى ولا تجعل من حجتها بعقلنة الجموح الشبابي ذريعة لقمع القوى الشبابية أو فرملتها بأي معنى من المعاني الهادفة إلى تقويض شراكة الأجيال في صنع المستقبل.
غير أن مايحدث في بعض مؤسسات العمل المهني بل والمعرفي لدينا يظهر مفارقة تشتيتة موجعة في علاقة قوى العمل ببعضها البعض. فيبدو التخلص من خبرات قد تكون نادرة لاتعوض أو في أوج القدرة على العطاء وكأنه فعل ضروري لتمكين الشباب، والأفدح أن يكون ذلك باسم تطعيم العمل بدماء جديدة. على الرغم من الواقع الذي يشهد بأن استعصاء النزعة النقدية والتجديدة على الترويض لبعض من قوى العمل المخضرمة غالبا ما يكون هو سبب اقتناص الفرص اللائحية للتخلص منها، مثلما أن قبول الشباب كثيرا مايكون رهنا بمطابقتهم لمواصفات الرضى بالقائم أي كان أو مايمكن تسميته، «بوظيفة واحمد ربك». أي لاتفتح فمك بنقد ولاتمد يدك لتجديد. وهذه المفارقة بين مقاومة المخضرم والصاعد من قوى التجديد رغم دعاوي تجديد الدماء تكاد تكون قاعدة ذهبية في العمل الحكومي باستثناء الانطباع الذي يوحي بمعاكسة هذه القاعدة فيما يحاول أن يفعله هذه الأيام على مايبدو الأمير محمد بن سلمان في السياسة ود.أحمد العيسى في التعليم.
وعليه فبقدر مانفرح بحكومة الشباب وبتبوء الشباب مواقع عمل تمكنهم من تحمل مسؤولية التحول الوطني الجاد والمجدد لشق مسار للمجتمع على طريق المستقبل وحجز مقعد للوطن على خارطة العالم المتقدم، بقدر مانصر على إلا يكون ذلك بإزاحة الطاقات المجددة ذات العقول والأيدي الخلاقة والمدربة في نفس الوقت من تلك الأجيال فاجأها العمر فاقتربت من الستين، بلغتها أو تخطتها ودماء الشباب لاتزال تهدر في عروقها ممزوجة بما صهرته في عقولها نيران التجارب وبما صقلت به أكفها خمائر الخبرة وبما قد تكون نشوة الصبر وأمصال الأمل قد أكسبتها من قدرة على شراسة المقاومة وشفافية البصر.
عند هذه النقطة من المقال يبدو لي واضحا الآن بأني تورطت وتناولت الموضوع بشكل معقد جداً يفوق محدودية الموضوع بما قد يخل بمحاولة توصيله. فالموضوع هنا وإن كان معني بلفت النظر إلى أطروحة تعطيل حس الشباب النقدي والتجديدي في العمل الرسمي والأهلي باسم الاستتباب فإن موضوعه المحوري يتلخص في عنوان عريض هو (الاستغناء عن أصحاب الخبرة المجددين في مؤسسات النفع العام المهنية والمعرفية باسم تجديد الدماء). مع ملاحظة أن هذا العنوان المهذب النبيل له مسميات أخرى تتعدد حسب جهات الاختصاص والمعنين به. فنجد له أسماء ساخرة أو مريرة يعرفها من عايش ذلك الواقع أو اكتوى به وبعضهم ساهم في سكها، كما نجد له أسماء إعلامية براقة كمعظم الأوضاع التي يجري الحرص على تجميلها لو أشتم أنها قد تقع تحت الأضواء. ومن تلك المسميات الساخرة ومقابلها الإعلامي (مت - قاعد) (متقاعد) (العمر النظامي لنهاية الخدمة) (العمر النظامي لبداية الموت) أو ميتة أولى «(بلوغ الستين) (بلوغ سن اليأس الوظيفي) (تقادم الخدمة)(اقتراب تاريخ انتهاء الصلاحية). على أن هذه المسميات بنوعها الإعلامي والساخر قد لاتكون إلا قشرة خارجية لفعل قاس وقرار قسري لاتقتصر آلامه على من تطالهم آلام وغربة الاستبعاد بل يمتد الألم ليشمل العملية البنائية لـ»مسيرة الدولة ومجتمع».
هذا الحديث لاينطبق على من يقعون على القمة من السلم الوظيفي. وهو أيضا لاينطبق على أولئك الذين يملكون راساميل مالية لينصرفوا إلى التفرغ لمشاريعهم الربحية الخاصة. كما أنه حديث لاينطبق على أولئك الذين طحنت عظامهم تكلسات الروتين الوظيفي ويحلمون باليوم الذي ينعتقون فيه من آلام التكرار وسأم رتابة بعض الوظائف، ولا ينطبق بطبيعة الحال على من تفانوا في عملهم ويتوقون للانطلاق نحو تجريب نوع جديد من الشغف في عموم أعمال القطاعين الحكومي والأهلي ولكنه مع ذلك ليس تعبيرا عن حال نخبة بعينها بقدر ماهو حديث في هذا السياق عن أولئك الذين يجمعون بين الخبرات والشغف في أعمال تحتاج بجانب الدماء الجديدة إلى أولئك الذين لم تزدهم سنوات العمر والعمل إلا شبابا وتجديدا في مجالات خبراتهم المهنية والمعرفية. فإلى متى تمدد سنوات العمل الوظيفي للمتجمدين على الكراسي إلى مالانهاية بينما يسارع للتخلص من المجددين كنخلة تقطع للتخلص من أشواك العسيب.