زكية إبراهيم الحجي
«الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى» مقولة للدكتور مصطفى محمود.. وعين التأمل لهذه المقولة تكشف كمًّا مما تتضمنه من دلالات ورموز متعددة، بعضها قد يكون واضحاً للعيان، وبعضها يستتر خلف صور من غموض أو خلفيات مبهمة تحتاج إلى فلسفة معينة لا يستطيع قراءتها إلا من يمتلك تمكناً وبعداً واسعاً في العلم الفلسفي.. ولكن ماذا لو تناولنا هذه المقولة كبوصلة توصِل الإنسان إلى كنوز مدفونة ستُثري عقله وفكره ووجدانه إن استمر في التنقيب عنها والاستفادة منها.
الفضول.. الخيال وحب المعرفة غرائز فُطِر عليها الإنسان منذ ولادته تنمو وتكبر كلما كبر وازداد وعياً بكيفية تغذيتها تغذية ذاتية دائمة علماً بأن حب المعرفة هو قمة «هرم ماسلو» في الاحتياجات الفطرية للإنسان.. والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل إنسان يظل في حالة من التعلم واستقاء المعرفة.. وما يتعلمه الإنسان من الحياة وتجاربها ومن الكتب التي يقرأها هي أكثر عمقاً وأعمق أثراً في نفسه وعقله مما يتعلمه في المدرسة أو الجامعة.. ولعل ما أشار إليه الكاتب مصطفى السباعي بقوله (لا ينمو العقل إلا بثلاث.. إدامة التفكير ومطالعة كتب الأدباء والمفكرين واليقظة لتجارب الحياة)، هذه الثلاثية هي بلا أدنى شك أثمن كنز نُثرِي به عقولنا ونطور ونجدد به أفكارنا.. ولكن يبقى الكتاب وعاءً مليئاً بالعلم والأدب والفكر.. وتبقى القراءة متعة التجول في عقول العلماء والأدباء والروائيين.. ويبقى الكتاب امتداداً لذاكرة كل شغوف مولع بالاطلاع على كل صنوف المعرفة.
حديثي عن القراءة ذكرني بالشاعر الأرجنتيني الكفيف «لويس بورخس» يُروى عنه أنه دخل يوماً إلى مكتبة وطلب قاموساً لغوياً فاستغرب الصبي الصغير الذي كان يدير المكتبة فسأله كيف لك يا سيدي أن تقرأ وأنت كفيف فأجابه مبتسماً.. ما رأيك أن تقرأ لي وتساعدني أيضاً على قراءة كتب أخرى.. إجابة من الشاعر تحوي بين ثناياها دعوة وحثا غير مباشر على القراءة.. وأن القراءة لا تقتصر على المبصرين فقط بل هي عامة للجميع.. الجميع يمتلك من المقومات التي تمنحه القدرة على القراءة حتى ولو فقد أحد هذه المقومات.. لكن ما يثير الدهشة والاستغراب أن حكومة الأرجنتين موطن الشاعر «لويس بورخس» كانت تحارب الفكر وتقف ضد المثقفين، ففي عام 1950 نظمت حكومة هذا البلد الموسوم بالديكتاتورية والعنف مظاهرة شعبوية ضد المثقفين المناوئين للحكم وكان المتظاهرون يهتفون
(أحذية نعم.. كتب لا) وذلك إشارة إلى أن الحكومة ضد الفكر والثقافة وأن الكتب بهرجة لا حاجة إليها.
القراءة.. متعة وفن وحضارة وثقافة.. القراءة ليست مجرد بحث فقط عن المعاني في النصوص.. بل هي أيضاً البحث عن نقاط التأثير التي تتركها النصوص فينا لذا كانت وما زالت من أهم وسائل نقل ثمرات العقل البشري وآدابه وفنونه ومنجزاته وحينما نتحدث عنها فنحن لا نتحدث عن كم الكتب التي نقتنيها والطقوس التي ترافقها فليس مهماً كم وكيف نقرأ.. بل لماذا نقرأ.. لذلك يجب أن يكون الكتاب فأساً للبحر المتجمد في نفوسنا.