د. حسن بن فهد الهويمل
ذاكرةُ بعض المتصدرين لصياغة الفكر العربي المعاصر مخروقةٌ. تسمع، ولاتعي. تمر بها الأحداث الملتهبة، ثم تترمد، وتذروها الرياح.
وأكثر الراصدين لفيوض القول، والفعل. لايعون المحطات المِفْصَلية، ولا الصناع المهرة الماكرين. الذين يؤذون الأمةَ العربية بفعلهم، ويغثونها في قولهم. وهذا دليل الغفلة المعتقة، والنسيان المُرْدي!
وحين لايمتلك المتصدرون لقيادة الفكر تَذَكُّرَ الأحداث المصيرية، وتفكيكها، واستكنان دواخلها، يُصاب ذهن الأمة بالشلل. لأن هذا النوع المتسطح النَّسَّاء يشكل الوعيَ الجَمْعِي على غير هدى.
والرأيُ العامُ يكون بهذا التشكيل ضحيةَ التهييج العاطفي الفارغِ من كل فكر واع، أو معرفة مُبَيِّنَةٍ.
التاريخُ السياسيُّ الحديث يفيضُ بالمآسي، والأحداث الجسام. وما يَدُورُ في الراهن يَمُدَّ بسبب إلى ماض قريب، أو بعيد. قد لا يستحضره الكتبة المتسطحون. والإعلاميون المفوهون.
ومامن حَدَثٍ مصيري إلا وَوَراءهُ مهندسٌ مُحْتَرِفٌ، مَهَّد له؛ وهيأ لقيامه. وحين تُفْتَحُ صفحات التاريخ، يَقْدُم المهندسون صَنَائِعهم، يحملون سبة الدهر، وَعَار المخادعة.
وقليل من المكتوين بنيران الغزو، والتآمر مَن ينقب في طيات التاريخ الحديث، ويتوسل بالمجسات، ليعرف عدوهُ، من صديقه. إذ كل طاقاتنا موجهة للتلاحي الفارغ، والتناجي الآثم، وتبادل الاتهامات، وجلد الذات.
مقاليد العالم يشاطر في إمْساكِها مَهرةُ فجرة، يدوكون ليلهم، أيهم يظفر بمكيدة مُصْمية تحز إلى العظم، وتُقَطِّع الأوصال. وتعيد أمتنا إلى مربعاتها الأولى.
وهؤلاء المتمردون لوجه الشيطنة، والخنزرة، وفي سبيل الشر المستطير، يتقنون المخادعة، والمراوغة، والتقنع، وشَرْعَنَةَ الخطيئة، موهمين السذج من [المتحدثنين]، و[المستغربين]، و[المتعلمنين] بأنهم قادةُ الفكر النَّيِّرِ، ورسلُ الإصلاح الشامل، وأن الإنسانية هدفهم الأسمى، ورفاه العالم غايتهم النبيلة. وفينا سماعون لهم.
ولو أن المُنْساقين خلفهم تبينوا، وتثبتوا، لتَبَدَّت لهم السوءات، وانكشفت لهم النوايا السيئة، وتمكنوا من أخذ الحذر، والتحرف للمواجهة، والتحيز للحق.
ومن الموجع أن مشاهد الأمة العربية مسرح مريح، لتجارب السلاح الفتاك، وعرض الأفكار الهدامة.
لقد مهد شرار [المستشرقين] الطريق للاستعمار التقليدي، وأعطوه مفاتيح النفوس، ومروضات العواطف.
وجاء مهرة السياسة، وأساطين الفكر، يُدَمِّر أولئك كافة البُنَى، ويُفْسد هؤلاء كافة المسلمات، والثوابت. ومن خلف أولئك ما يمكن تسميته بـ[الطابور الخامس].
فالمغفلون منا، يعَذِّرون، ويُحَمِّلون ذويهم جرائر ما يجري على الأرض، وفي مسارح الفكر.
وما دَاءُ أمتنا إلا القابلية للتذيل، والاستعداد للتبعية، والمنافحة عن مقترفات المستبد:- {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.
من الفارغين من يَلْعَنُ [الاستشراق] على الإطلاق، ما صلُح منه، وما لم يَصْلُح. ومنهم من يُشِيدُ به على الإطلاق، لا يستثني من ذلك شَيْئا. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
[الإستشراق] ظاهرةُ معقدة، لايَسْتَبِين خيرها من شرها إلا العالمون بدفائنها، ودوافعها.
وهو في كثير من جوانبه مِهاد المفاسد السياسية، والفكرية. بل هو مفاتيح الشر، وأدِلَّة الغواية. إنه ظاهرة خَدَّاعة نفعت، وأضرت، وإثمها أكبر من نفعها.
عندما سطع نجم [هنري كيسنجر] وهو رأس صناع الشر، والكراهية. لم تكن لدي المعلومات الكافية عنه، ولم أكن يومها مأخوذاً بالتقلبات السياسية.
غير أني أمام شخصية تتردد في وسائل الإعلام، بشكل مُلفِت للنظر، حتى لقد طغى حضورها على رؤساء الدول الكبرى.
وهو إذ غَامَرَ في حَمْل الملفات الساخنة، والمعقدة، واستطاع أن يتحكم فيها بسياسته الطويلة النفس، والمعروفة بسياسة [الخطوة خطوة] فقد أصبح مثيراً للجدل، وملفتا للنظر.
ولأنه [صهيوني] عريق، ولاعب بارع، فقد شغل الناس عما ينطوي عليه من مكائد يهودية قاتلة. بحيث أبدى لطرائده القوة الناعمة، والتغافل الماكر، ولين الجانب. وماعلم أولئك المأخوذون بغفلة المؤمن، أنه يتمتع بجلد الفاجر.
الغربيون قبل غيرهم يرون [أنه إنسان بغيض، صنع الحرب بسرور] وسياسة [الخطوة خطوة] التي عُرف بها، إنما مارسها في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973م لصالح الصهيونية.
مالا ننكره أنه كنيف مُلء علَماً في السياسة، بارع في [لغة التفاوض]، عميق النظر في مضمرات الآخرين، حاذق في الاحتواء، ومَصِّ الاحتقانات، وترويض الجموح، وصنع الطعم الجاذب.
لقد دَرَّسَ العلاقات الدولية في الجامعة التي تخرج فيها [هارفارد]، التي تعد من أعرق الجامعات، وأثراها معرفة، ومنهجية.
ومن ثم استطاع من خلال هذه الخبرة، والمعرفة أن يمارس التخدير، وانتزاع الموافقات التي تضر بالمفاوض، دون علمه.
فهو مخادع كـ[البعوضة] التي لا تحس بلدغتها حتى تطير:- {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
ومن قبله، ومن بعده، ومعه، ظهر في السياسة الأمريكية رؤساء، وعاملون في ظِلِّهم يتقنون المخادعة، والاستدراج، وممارسة الكذب، والتضليل للمؤسسات النيابية، لتحييدها، أو انتزاع موافقتها، واستمناح الشرعية لممارسة الفعل الهمجي، التسلطي، الذي يعمق كره أمريكا، ويُشَوِّهُ سمعتها.
ولربما يكون [كيسنجر] و[جورج بوش الإبن] الأكثر نصيباً من المخادعة، والتغرير، والتشويه.
بل ربما تكون الفوضى غير الخلاقة من صنعهما. تمهيداً للأحلام الصهيونية. لقد بلغا بعالمنا العربي المنكوب بأبنائه، وأعدائه على حد سواء الدرك الأسفل من الهوان، والحَزَن، والفوضى. ولمَّا تبد بوارق الأمل.
أنا لا أكتب عن [كيسنجر] لذاته. ولا أُحَمِّله الجرائرَ وحده، ولا أبرئ قادة الانقلابات العسكرية.
ولست أريد له أن يظل الهدف الرئيس لمقالي، وإنما أريد أن يكون عَيِّنة متعفِّنة، ينتزعه المِجَسُّ، لأذكر به، وأمكن الطرائد المجهدة من مَعْرفة العدو من الصديق، وأن تستبين أمتنا المضللة المنعطفات الخطيرة، والمحطات المهمة في تاريخها الحديث. لقد مللنا من الزيوف، وبرمنا من التظليل.
كنا من قبل على يقين من [الصهيونية اليهودية] ندرك المرارات التي نتجرعها من المؤامرات القذرة.
ولكن القليل مِنَّا من يدرك [الصهيونية المسيحية]، واستفحالها عند طائفة من المتنفذين في السياسة الخارجية الأمريكية. وها نحن اليوم نرقب بخوف [ترامپ] القادم بقوة، بكل مايحمله من عفن التعصب، ونَتَنِ الكراهية.
وقد يُطلق على هذه المجموعة المتنفذة [اليمين المتطرف] أو [المحافظون الجدد]. ومع أن [بوش الإبن] نَدِمَ على فعله في [العراق] في حملته الانتخابية، إلا أنه لم يغير شيئاً من تصهينه.
ولربما يكون الاعتذار في أعقاب الضربات الموجعة التي مُنِيَ بها، وحَمَلَتْه على تسليم [العراق] للمجوس الصفويين، نكالاً لـ[العرب السنة] الذين خذلوه، وأفشلوا خططه.
على أن فشل أمريكا في التعامل مع الشأن العراقي فشل خُطَّةٍ، لا فشل دَوْلة. الناقمون على أمريكا يظنون أنها فشلت، وأنها عاجزة عن إدارة مثل هذه الأزمات. والحق أن المهندسين لهذه القضايا العارضة، لم يحالفهم الحظ.
ثم إن الظلم مرتعه وخيم. والله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة. ويخذل الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة. وكيف لا، وهو قد حَرَّم الظلم على نفسه.
أنا هنا لست معنياً بتقويم السياسة الأمريكية الخارجية، ومدى قدرتها على إدارة الأزمات. فتلك قضية أخرى.
يتبع...