د. فوزية البكر
عبر التاريخ استخدمت الحركات السياسية والفكرية والفلسفية مسميات ( أو ما يسمى في علم صناعة الرأي العام (لوجو) لتعرف به، ويكون ممثلا لها يستدعيه المرء في ذهنه عند ذكر هذا اللوجو، والأمثلة كثيرة وسأستدعي أمثلة من تخصصي كأستاذة في علم أصول التربية، وكمثال: ما يدعي بالفلسفة البرجماتية وهو مصطلح اخترعه العالم الأمريكي برس في القرن التاسع عشر،
ثم دعمه العالم الأمريكي جون ديوي لتأكيد فلسفتهم البراجماتية العملية المبنية على العقل والفائدة؛ بمعني ماذا يفيد الطلاب أن يدرسوا مثلا حصصا متواصلة من الحفظ والتغييب إذا لم يجدوا لها تطبيقا في أرض الواقع، ومن هنا طغى مصطلح براجكماتيزم أي أن تكون عمليا أولاً، وذا فائدة لما حولك، وحقق المصطلح شهرة غير مسبوقة في عالم الفلسفة.
هذا بالضبط ما يحصل لمفهوم كان غير مألوف لا كمصطلح و لا كمعني مثل مفهوم التحول الوطني. هذا المصطلح ورغم جدته لكنه، وكما ألاحظ اليوم أخذ في التغلغل في حياتنا وفي ممارسات المؤسسات المحلية المختلفة حكومية وخاصة بحيث بدأ فعلا يفرض نفسه كأداة للتحول الذهني والفعلي على أرض الواقع.
أقول هذا لأنني وعندما سمعت بهذا المصطلح وسألت نفسي بصدق منذ سنة: ماذا يعني الأمير الشاب بالتحول الوطني الذي سيأخذ مئات السنين حتى يحدث ؟ قلت ربما تم استخدام هذا المصطلح من قبل كبار المؤسسات الاستشارية الأجنبية للدفاع الخارجي عن الصورة السعودية وهو ما عهدناه دائما.
وحين كان يسألني أي من مراسلي العالم عن هذا التحول حينما كان في بداياته لم أكن أجد جوابا صادقا أقدمه، بل لعلي أكون أكثر صراحة أذ اعتبرتها مثل الالاف غيري جزء من الكليشيهات التي تستخدمها الأنظمة السياسية المختلفة عبر التاريخ؛ لتثبيت قواعدها فمن يلومنا إذا آثرنا الصمت بدل طغيان المؤسسة؟
الآن، وبمرور سنة وثلاثة أشهر تقريبا على الحقبة الحالية. ما الذي يمكن لي أن أقوله؟ أعترف أنني لم أكن قادرة على فهم الصورة حين بدأنا مرحلة ما سماه ولي ولي العهد: بالتحول الوطني.
اليوم، أقول لكم وأنا لا أعرف ماذا يحدث ولم أكن جزءاً من البرنامج، لكني أراه: أراه في الشارع: أراه في تلميذاتي المختلفات المسئولات المنفتحات بعقل ودين أراه في جارة أمي التي بدأت تتحدث عن أهمية الماء والكهرباء، وكيف تتكيف مع تكاليفها.
سيلومني الكثير من المثقفين المتعففين الذين يحرصون دوما على حفظ المسافة بينهم وبين السلطة وسأظل منهم. لكني وبصدق أرى التحول يحدث بشكل لم أحلم به بل لعلي أصرخ: نعم، نحن نتحول الى المجتمع الحلم: الواقعي المسئول الذي طالما حلمت به.
هل أنا مضطرة لقول هذا الكلام؟ أبدا... لست مقربة من ولي ولي العهد ولا من سبقه، ولا أعرفه ولم أحضر أياً من لقاءاته وسيبقى همي الوطني هو الأول في كل اهتماماتي حتى أغادر هذا العالم.
ولكن أكتب الآن وبعد سنة كاملة من الشك المقلق في نوايا الأمير المغامر، ولعلي أخبره اليوم أنه سيكون بخير بإذن الله.
حين بدأت معركة هذا المصطلح لم أكن قادرة على تحديد الاتجاه؟ وكمعظم المواطنين الصامتين الذين أنتمي إليهم: لم أجد جوابا فلم يكن الواقع ينفي التحول، كما لم يكن أيضا يؤكده.
تدريجيا، بدأت ألاحظ أن المؤسسات على اختلافها، وقد بدأت في التحول التدريجي لتكون أكثر مهنية، أكثر تحديداً لأهدافها وللنتائج التي تريد الوصول لها, بل لعلي أقول أكثر من ذلك: التحول الخفي الصغير الذي بدأ يتسلل إلى النفس السعودية بمسئولية الإنسان المباشرة (رجلا كان أو امرأة) عن نفسه ودوره في المشاركة في كل ما حوله من موارد عن طريق ترشيدها واستخدامها بطريقة تحقق أهدافه لكنها لا تكلفه أكثر مما يستطيع: بمعنى: أنه ورغم وجود بعض الخدمات (علي تواضعها) في وقتنا وحتى الآن (مثل الخدمات الصحية والتعليمية تحديدا)، إلا أن الخطاب الموجه كان يقول: الأمر مسئولية الجميع لاستخدامها بشكل عاقل، وهذا يوقع على عاتق المواطن الفرد مسئولية ضخمة لاستخدام أي طاقة بعد التفكير فيها وحساب ثمنها الذي سيدفعه وهذا يخالف تماما العقلية الريعية التي تربينا عليها سابقا حين نستخدم وبشكل آلي مصابيح الكهرباء وصنابير المياه دون وعي بقيمتها المكلفة.
التحول الوطني يجبر هؤلاء الصغار واليافعين الذين تربوا في أحضان من هم مثلنا على إدراك أن كل مصباح كهربائي يجب أن يطفأ إذا لم نحتاجه في البقعة التي نجلس أو نمر فيها، وكل قطرة ماء لابد أن يتم استخدامها مع الكثير من الحذر بعد كل هذه الفواتير (المخيفة) التي هاجمت المواطنين على حين غرة.
هناك محاولة من منظري (التحول الوطني) لتشكيل واقع ذهني جديد لدى أفراد المجتمع برفع حساسيتهم الوطنية في ما يحدث لهم وضرورة تحمل مسئوليات أنفسهم وأسرهم عن طريق رفع مستوى أدائهم لأعمالهم بما يحقق (مهنية) أكبر تنقل أساليب التفكير الجمعية من مستوى المجتمعات المعتمدة على الدولة لتلقي الهبات إلى الدولة التي يحرك الفرد فيها اقتصاده بتنويع مصادره للخروج من معضلة الاعتماد الأوحد على المداخيل النفطية.
نقول هذا وفي جعبتنا الكثير من الأسئلة التي لا يفك المواطنون عن مناقشتها بينهم وأكبرها قضية الشفافية في امتلاك وإدارة أموال الدولة؛ إذ هل يمكن مقارنة صرفية الكهرباء لمنزل صغير لمواطن بكميات المياه والكهرباء التي تصرفها هذه القصور المنفية التي تنتشر في كل مكان؟ تركيز الصلاحيات ضمن دائرة ضيقة لا يتفق مع المبادئ العامة التي ينادي بها برنامج التحول الوطني وعلى رأسها المهنية والإدارة الحكيمة، فكيف يمكن تكسير بنية هذه البيروقراطية المعتمدة على المركزية المطلقة؟
الفيلسوف الأمريكي فوكوياما الشهير بكتابة «نهاية التاريخ» أجاب حين سئل حول: ما إذا كان معظم العالم يتجه نحو نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية؟ قائلا: نعم، وذلك لسببين وهما المحركان الأساسيان لهذا التغيير: الأول يتعلق بالاقتصاد والآخر يتصل بما سماه: الصراع من أجل نيل التقدير والاحترام.
وهذا ما نحتاجه في برنامج التحول الوطني: أن يشعر كل مواطن بأنه مقدر ومحترم عن طريق المشاركة الحقيقية في صنع القرار وتوزيع عادل للصلاحيات حسب الأصلح وليس بالضرورة حسب الأقرب. اللهم احفظ هذه الأمة وأمنها من كل سوء.