د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يبدو أن من العسير على شخوصنا اطّراحَ أقنعتها بشكل تام؛ فمهما ارتقينا في درجات الشفافية فإن غلالاتٍ خفيفةً تُواري بعض أسمالنا الظاهرة والمستترة خوفًا وحياءً ومجاملةً وتكاذبًا واحتفاظًا ببقية ملامحَ لا يعنينا الآخرون فيها أو لا تعنيهم، وربما خفيت جوانب إيجابيةٌ كالمدير الذي يكتم طيبته والمنفق الذي يبدي إمساكه والذكي الذي يُسوِّق لتغابيه والممتلئِ الذي يدَّعي فراغه.
** كانت الأقنعةُ كستائر الغرف المغلقة ثم صارت كزجاج الصوالين المفتوحة وبدونا أمام الغرباء كما نحن عند الأقرباء فلا ضيرَ من «كثِّ الرثّ» مما لم نعهده فيمن قضَوا؛ فالذي نعرفه عن الزعماء والقادة ورجال الفكر هو ما سمحوا بنفاذه إلينا وكما شاؤوا أن نقرأَه، وحين نعرف صورة مغايرة فلأن آخرين مرتبطين بهم نقلوها إلينا.
** عُرف عن نجيب محفوظ حياؤُه ومجاملته وبعده عن انتقاد الآخرين أو الحديث عن نفسه ، وفي الجهة المضادة توفيق الحكيم الذي يسرف في ذكر حكاياته ويتسرّع في أحكامه ويعلن بخله وتلونه، ولا نكاد نعرف كثيرًا عن بيت عبدالناصر- وهو الزعيم العربي الأشهر - بينما فتح السادات منزله وعلم الناس عن «جيهان - أنور» ما أغلقته « تحية - جمال» حتى صدرت «ذكرياتها معه» بعد وفاتها بعشرين عاما، وفي غيرهم من صارت حكاياته مشاعًا يعرف الناس أقصاها وأدناها ومنهم من أقفلها حتى لا تكاد تُرى.
** تبدلت الدنيا وترققت الحُجُب ومع ذلك فقد بقي غموضُ الوضوح؛ فقد يكشف الواحد فينا عبر وسائط الإعلام الرقمي جوانب مختلفةً عن حقيقته ؛ فيبدو غضوبًا وهو حليم وصاخبًا وهو هادئ وقبيحًا وهو جميل ، وربما العكس، وهنا تتجلى قيمة الملتقيات العامة التي يتواجه فيها أهل الاهتمام المشترك فيدنو النائون ويصطحب المتناوئون ويتعارف المتجاهلون، كما أن في السِّير- التي ازداد سوقُها - عبرًا وتأريخًا؛ سواءٌ أكتبها ذووها أم اكتتبوها؛ فلم يعد الأغلبيةُ متخوفين من فتح نوافذهم لشموس الاعترافات الجميلة التي لا تهتك أستارًا ولا تنتهك خصوصيات.
** صرنا نبحث عن كتب السير الواقعية أكثر مما نبحث عن الروايات الخيالية حين نلمسُ من صاحبها صدقًا ومباشرةً وبوحًا رفيقًا، كما ننأى عن السير النمطية التي تُضفي على موضوعها سمات الطهر والفاضحة التي تخترق الستر، ويرد هنا السؤال الأهم حول إحجام الرموز العامة عن تسجيل حكاياتهم وإجابتهم « المترددة « - حين يُستفسر منهم - أنْ» ما كل ما يُعلم يقال»، وهي حجة صحيحة لو كنا في زمن الرِّتاج لكننا في زمن السراج الوهَّاج.
** نريد من رموزنا أن يلتفتوا إلى توثيق مسيراتهم في فترة متبدلة عاشوا بداياتها كما كان يعيش أصحاب القرن الأول ويحيون اليوم مثل غزاة الفضاء، ولا حجة لمن يُسوِّفون فقد يرحلون دون ذاكرة.
** القول دواءُ التقوُّل.