د. عبدالحق عزوزي
انعقدت بمدينة الرياض الأربعاء الماضي القمة الخليجية - المغربية، وهي القمة الخليجية - المغربية الأولى بعد خلق التعاون الإستراتيجي بينها منذ سنوات،
ويتذكر القارئ الكريم ما كتبناه في هاته الصحيفة الغراء مراراً عن الإستراتيجية، فغرضها هو ترجمة الغرض السياسي (الهدف الوطني، والمصالح القومية، ودليل السياسة) إلى تأثيرات تشكّل البيئة الإستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحدَّدة في حقل تنفيذها. فالإستراتيجية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنُّبها، وتؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الإستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الإستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة مصالح الدولة بنجاح وهو ما قامت به القمة بنجاح. ومن خلال تحليل هذه العوامل وتقويمها، فإن الإستراتيجية تُنتج بياناً معقولاً يتضمن الغايات والطرائق والوسائل التي تخلق تأثيرات تؤدي إلى المستقبل المنشود. وبذلك، فإن إستراتيجية مثل هاته القمة تخدم هدف المصالح العليا للبلدان، وتضمن المرونة والقدرة على التكيُّف، وتضع الحدود من أجل التخطيط السليم.
فدول العالم تعيش اليوم في حال من الارتباك الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، لا يخفى على أحد. وهذا الارتباك لا يسلم منه أحد؛ وهناك أحداث عميقة الأثر، لم يكن أحد ينذر بها؛ وهناك تحولات متزامنة تجعل متخذي القرار في حيرة من أمرهم؛ وانتقلت سياسات الدول من الليبرالية إلى الحمائية، ومن داعية للاستقرار إلى سند للتغيير ثم إلى الاستقرار بعد أن تحول الحراك الشعبي في العديد من الدول إلى خريف عربي برياح عاتية تأتي على الأخضر واليابس، تاركاً بعض الدول في علم الغيب بسبب الفوضى والمجهول، وأخرى ركبت سفينة النجاة دون أن تبصر المدى المتوسط والمدى البعيد، وثالثة بقيت في منأىً عن تلك الاحتجاجات الجارفة؛ ولكن محددات السياسات الخارجية عموماً، والنظام الاقتصادي، والإستراتيجيات التحالفية والأمنية، يجب أن تتغير وتتقوى، خصوصاً الدول المحورية في المنطقة العربية وعلى رأسها دول الخليج والمغرب.
لذا حذر العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه إلى إخوانه قادة دول مجلس التعاون الخليجي من «مخططات مبرمجة» تستهدف الدول العربية، ومؤامرات تستهدف المساس بالأمن الجماعي لدول الخليج والمغرب والأردن، التي وصفها بأنها واحة أمن، مؤكدًا أنه يعتبر أمن واستقرار الخليج من أمن بلاده. وأكد العاهل المغربي - في كلمته أهمية القمة، قائلًا إن «الشراكة المغربية - الخليجية، ليست وليدة مصالح ظرفية، أو حسابات عابرة، إنما تستمد قوتها من الإيمان الصادق بوحدة المصير، ومن تطابق وجهات النظر، بخصوص قضايانا المشتركة». وأشار إلى أن بلاده ودول الخليج «يتقاسمان نفس التحديات، ويواجهان نفس التهديدات، خصوصاً في المجال الأمني»، لافتًا إلى أن الجانبين «تمكنا من وضع الأسس المتينة لشراكة إستراتيجية، هي نتاج مسار مثمر من التعاون، على المستوى الثنائي، بفضل إرادتنا المشتركة». واعتبر أن هذه القمة تأتي «لإعطاء دفعة قوية لهذه الشراكة، التي بلغت درجة من النضج، أصبحت تفرض علينا تطوير إطارها المؤسسي، وآلياتها العملية»، مبيناً أن ذلك «يتطلب العمل الجاد، والتعاون الملموس، وتعزيز التجارب الناجحة، والاستفادة منها، وفي مقدمتها التجربة الرائدة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي».
فالبيئة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية للدول، أصبحت ذات طبيعة فوضوية ومعقّدة، والعالم بدأ يتغير بسرعة فائقة، وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ وبدأ منظرو العلاقات الدولية يصابون بالحيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد تراءت إليهم محدودية نظرياتهم عن الأنظمة الإقليمية والدولية، وهي في أصلها متغيرة وانتقالية على الدوام، وتحاول تَوَقُّع نظام دولي أو إقليمي له محددات كافية لتثبيت الاستقرار.
فهناك مخططات عدوانية تستهدف المسّ باستقرار دول المنطقة، وهي «متواصلة ولن تتوقف»، لذا شدد ملك المغرب في خطابه على أن تلك المخططات «بعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي.. ها هي اليوم تستهدف غربه»، على أن آخرها «المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية لبلدكم الثاني المغرب». واستحضر العاهل المغربي، في خطابه قضية الصحراء التي نالت مساندة خليجية مباشرة، إذ قال الملك محمد السادس إن «خصوم المغرب يستعملون كل الوسائل، المباشرة وغير المباشرة، في مناوراتهم المكشوفة»، على أنهم «يحاولون، حسب الظروف، إما نزع الشرعية عن تواجد المغرب في صحرائه، أو تعزيز خيار الاستقلال وأطروحة الانفصال، أو إضعاف مبادرة الحكم الذاتي.. التي يشهد المجتمع الدولي بجديتها ومصداقيتها». وأوضح الملك محمد السادس أن شهر أبريل الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء بات «فزاعة ترفع أمام المغرب، وأداة لمحاولة الضغط عليه أحياناً، ولابتزازه أحياناً أخرى»؛ فيما أكد أن الوضع بات خطيراً هذه المرة، «وغير مسبوق في تاريخ هذا النزاع المفتعل»، ليوضح أن الأمر يتعلق بـ»شن حرب بالوكالة، باستعمال الأمين العام للأمم المتحدة كوسيلة لمحاولة المسّ بحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في صحرائه.. عبر تصريحاته المنحازة وتصرفاته غير المقبولة بشأن الصحراء المغربية». وتساءل الملك محمد السادس قائلاً: «ماذا يمكن للأمين العام أن يفعله وهو يعترف بأنه ليس على اطلاع كامل على ملف الصحراء المغربية؟.. بل إنه يجهل تطوراته الدقيقة، وخلفياته الحقيقية»، ليطرح سؤالاً ثانياً: «ماذا يمكن للأمين العام القيام به وهو رهينة بين أيدي بعض مساعديه ومستشاريه الذين يفوض لهم الإشراف على تدبير عدد من القضايا الهامة، ويكتفي هو بتنفيذ الاقتراحات التي يقدمونها له؟». وعن هؤلاء، كشف الملك أن بعض الموظفين «لهم مسارات وطنية وخلفيات سياسية، ويخدمون مصالح أطراف أخرى دون التزام بما يقتضيه منهم الانتماء إلى منظمة الأمم المتحدة من واجب الحياد والموضوعية»، ليشير إلى أن بان كي مون «رغم تقديرنا الشخصي له ما هو إلا بشر، لا يمكنه الإلمام بكل القضايا المطروحة على الأمم المتحدة، وإيجاد الحلول لكل الأزمات والخلافات عبر العالم».
وفي البيان المشترك، أكد قادة الدول موقفهم الداعم لمغربية الصحراء، ومساندتهم لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، كأساس لأي حل لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. كما أعربوا عن رفضهم لأي مس بالمصالح العليا للمغرب إزاء المؤشرات الخطيرة التي شهدها الملف في الأسابيع الأخيرة. ومن جهة أخرى عبّر القادة عن التزامهم بالدفاع المشترك عن أمن بلدانهم واستقرارها واحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها وثوابتها الوطنية، ورفض أي محاولة تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ونشر نزعة الانفصال والتفرقة لإعادة رسم خريطة الدول أو تقسيمها، بما يهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي. وانطلاقاً من هذه الثوابت، أكدت القمة أن دول مجلس التعاون والمملكة المغربية تُشكّل تكتلاً إستراتيجياً موحداً، حيث أن ما يمس أمن إحداها يمس أمن الدول الأخرى. وفي ظل ما تشهده المنطقة العربية من تطورات وتهديدات أمنية وسياسية خطيرة، زاد من حدتها تعثر إيجاد الحلول لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط، وتسوية الأزمات التي تعاني منها سوريا والعراق وليبيا واليمن، شددت القمة على أهمية تضافر الجهود لمواجهة هذه التحديات بكل حزم ومسؤولية. كما جدد القادة إدانتهم للتطرف والإرهاب بجميع صوره وأشكاله وأكدوا على عدم ربط هذه الآفة الخطيرة بحضارة أو دين والوقوف في موجة محاولات نشر الطائفية والمذهبية التي تشعل الفتنة وترمي إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ودعوا إلى تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة الإرهاب واجتثاثه والقضاء على مسبباته، مؤكدين على أهمية التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب لدعم هذه الجهود. وجدد قادة دول مجلس التعاون، التأكيد على إيمانهم بوحدة المصير والأهداف، وتمسكهم بقيم التضامن الفاعل والأخوة الصادقة، التي تقوم عليها العلاقات التاريخية الاستثنائية بين دول مجلس التعاون والمملكة المغربية.
وإني لأجد نفسي وأنا أستمع إلى البيان الختامي وقبل ذلك إلى كلمتي خادم الحرمين الشريفين والملك سلمان، مفعما بالغبطة والسرور كما هو شأن أبناء جيلي المقيم في دول الخليج والمغرب ونحن نرى آلية إستراتيجية واقعية وجادة أنشئت لكي تتحطم عليها كل المناوءات والمؤامرات التي تريد زعزعة المصالح وقيم العيش المشترك، ومبادئ الثقة التي تجمع الحاكمين بمحكوميهم، وأسس الدول والمجتمعات. إنها عاصفة إستراتيجية بامتياز، نحن في أمسّ الحاجة إليها، وهي مدفوعة بروح النقد والعقلانية الراشدة والتنويرية وبروح التكتل البنّاء الذي يتجاوز الأسئلة الخاطئة والفاشلة والتقابلات العميقة، وهي التي توازن بين الرؤية الثباتية والرؤية الحركية التي تشخّص وتؤثر على الذات في نظرة تجمع بين التحليل والتركيب والنقد والإصلاح والمنهج والرؤية لتجذير تعاون إستراتيجي متين عقلاني تنويري يخلق الحياة ويوصل البلدان إلى بر الأمان.