د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** شاء الله أن يغادرنا شيخنا أبو صالح وصاحبكم على مسافة «تسع ساعات طيران» فكان ألمُ الفقد أكبر؛ فالمسافة بينهما - عبر الأعوام الخمسة عشر الأخيرة امتدادًا لعلاقة عمر تربطه ووالدَه حفظه الله - لا تفهم ضمائر الفصل ولا الجمل المعترضة ولا مكان فيها لما «يسُد مسدَّ» الأصل؛ أفيكون قريبًا منه - طيلة فترة مرضه - ثم ينأى عنه ساعة الوداع؟
** لم يكن شعورًا محايدًا في حزنه؛ فرحيل الكبار صعب، ورحيل هذا الرمز أصعب، ويستعيد موقعه على شرفة غرفة «فندق فيرمونت في جاكرتا» والشمس تؤذن بالمغيب وهو يصور لقطتها» غير العابرة في ذهنه ويكتب عليها: «ما أقسى الغياب»، ثم يواصل «تعليقاته عبر صفحاته في» سناب شات» و»فيسوك « و» إنستغرام»؛ متحدثًا عن رحيل الأستاذ الدكتور عبدالله العثيمين رحمه الله.
** يذكر لقاءهما الأول حين كان أقرب إلى الصبا ووالدُه - سلمه الله - يوصيه أن ينتظر ضيقًا له عند «باب القهوة» - وهو ما كان يطلق على ما يسمونه اليوم: «باب الرجال» - في منزلهم آنذاك بحي «القرعاوية» في عنيزة، ولم يكن المنتظَر إلا أبا صالح حديثَ العودة من بعثته «الاسكتلندية الطويلة «حين كان للمبتعث لونُه وللدراسة رائحتُها.
** لا يملك صورةً أقرب غير اكتفائه بتضييفه إذ كان الوسيط «الخِدمي» بين «المجلس» و «المطبخ» حيث والدته - رعاها الله - تعد الشاي والقهوة و»المعروض»- مثلما كانت تُعرف الفاكهة وملحقاتها - وهو ما حال دون الإنصات لحديثٍ يحسبه ثريًا فلم تستوعب ذاكرته منه شيئا.
** يذكر أن والده قد حكى له عن ميزةٍ في أبي صالح لا تتوفر لكثيرين وهي مهارة الإنصات، وإذ ربطتهما علاقة وثيقة وقت شبابهما فإن العثيمين لا يدخل النقاش في أوله بل يظل مصغيًا حتى إذا تكلم اختصر أجمل ما في الجلسة من آراء فبدا حكيمًا في فتوته كما ظل في شيخوخته، وكان الوالد يمتن له حين يجيء ذكره فهو - مع آخرين - ذوو الفضل في إقناعه بترك العمل في خفر السواحل والموانئ بجدة وإكمال تعليمه في المعهد العلمي حتى حاز شهادة كلية اللغة العربية متفوقًا وتعين مدرسًا في معهد حائل ثم عنيزة لاحقا.
** كانت هذه الصور كفيلة برسم بعض ملامحه، وفيها العقل والعصامية وحب الخير، واكتملت حين ضمتهما أكثر من «دورية « واجتماع منتظم على مدى سنوات؛ فزانها تواضعُه وبساطتُه وهدوؤه وتقديره للجميع، وكانت بينهما أعمال احتاج إلى بعثها مع أشخاص لا يعرفهم المرحوم فكانوا يعودون منبهرين بهذا ال» أبي صالح « الذي تحقق له أن يصعر خده ويختال في مشيته ويضع حاجبًا وسكرتيرين فإذا به متربعٌ فوق كرسيه ونصف ساقه ظاهرة وغترته مرمية بجانبه ولهجته كمن لم يغادر حارته لا يتكلف لفظًا ولا يتعمد إغراقًا، وحين يتحدث بالفصحى فهو البليغ الذي لا يلحن، المفوَّه الذي لا يتردد، ويذكر أنهما كانا معًا في دار الأوبرا المصرية و»أستاذٌ دكتورٌ وزيرٌ خليجيٌ متخصصٌ باللغة العربية» يلقي محاضرةً ملأى بالأخطاء النحوية بالرغم من أنه كان يقرأُها فظل أبو صالح يحسبل ويحوقل حتى كاد يخرج من اللقاء.
** في دوريات الأصدقاء العامة شهد من كان يحاجُّه في تخصصه فلا يسأم ولا يتعالى، وفي جلساتهما الخاصة كان يطلب رأيه في بعض نصوصه فيعجب من شموخه وتواضعه وهو الذي وثق تميزَه شيخُنا عبدالله بن إدريس ضمن «شعراء نجد المعاصرين» قبل بضعة وخمسين عامًا.
** كنا في مؤتمر علمي - بعد وفاة شقيقه وشيخنا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين غفر الله لهما- فجاءه مسؤول في إحدى الصحف يطلب منه كتابة مقالة عن الشيخ فقال : لن يكتبَها أفضلُ من هذا، وهو دأبه في الحفز المعنوي المؤثر، ونشرت صحيفة المدينة لصاحبكم مقالين «فقدهما»عن الشيخ يتمنى يومًا أن يضمَّهما وغيرَهما كتابٌ عن حكايات الشيخ محمد العثيمين كما فعل مع الشيخ السعدي - ألحقنا الله بهما في عليين- وقد فاتح صديقَه الغالي إبراهيم المحمد العثيمين بهذا الأمر فلعلهما ينجزانه.
** من شاء معرفة نبل أبي صالح ووفائه فليتابع مرحلة مرضه حيث لم ينقطع عن الناس لدرجة أنه كان يزور أصحابه ويرتاد مناسباتهم ومعه جهاز الأوكسجين، وحين اشتد به المرض واصل الإطلال عليهم مع بقائه في سيارته، وبعدما أعيته الحركة فتح باب بيته بشكل يومي «بين العشاءين» ، واشتد به المرض فاختصر الجلسة في يومين، ثم اقتصرت على الأدنين منه حيث لم يكن يستطيع الكلام فحملت نظرات عينيه الذابلتين الموحيتين مشاعر الحب والامتنان.
** لم يقتصر فضلُه وقت صحته؛ ففي مرضه عرف صاحبُكم - عن قرب - شقيقه الأنموذج الشيخ عبدالرحمن الصالح العثيمين ، وسيستعير عبارة يرددها الدكتور عبدالله الغذامي حين يعجب بإنسان : «إنه مطر» ، وأبو عدنان العثيمين مطر خيرٍ وبر ووعي وسماحة ومروءة ومرح ومواقف، وإذ « لا تعدم الحسناء ذامًا» فإن الشيخ عبدالرحمن يعدم الذام ولا يملك من يعرفه غير الثناء عليه، وله حكايات تُؤثَر في خدمة الآخرين ويستحق مقالةً ضافية مطعمةً أو «ملغمةً» بحواراته العذبة وبخاصة حين يكون طرفُها الآخر أبا إياد الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع؛ حفظهما الله، وكان أبو صالح يتابعهما بابتسامته ونظراته التي لا تخفي قربهما منه وحبه لهما.
** قبل أن يُعييه الحديث والتواصل حمل إليه صاحبكم الجزء السادس من سلسلة (من أعلام الثقافة السعودية) الذي نشرته «الجزيرة» ضمن إصدارتها الثقافية، ويحمد الله أن «الثقافية» كرمته وقت صحته فقرأ ما كُتب عنه مع زهده في الثناء، وسبق أن أطلعه على كتاب كبير ألفه باحث عراقي هو الدكتور أحمد مطلوب وكان محرجًا فلن ينشره بنفسه أو عن طريقه ولن يردَّه إلى كاتبه، ولو شاء لوجد دور نشر عديدة ستتولى أمره، وصاحبكم شاهد على تعاملات الفقيد مع عدد من دور النشر التي تتسابق لخدمته حيث وكل إليه أمر تيسير مهامها عند رغبته إنجاز بعض كتبه، وما تزال لديه نصوص شعرية ومقالات لم تُنشر فلعلها تُجمع قريبا.
** عاش عبدالله العثيمين محبًا محبوبًا ورحل راضيًا مرضيًّا، والحديث عنه موصول بذكريات كثيرة قد يسعها مقام آخر، مثلما هو ممتد نحو السماء؛ فرحمه الله وأسكنه عليين وجبر مصاب ذويه ومحبيه.
** الحياة فوارق توقيت.