سهام القحطاني
و(يمكن إنجاز القول) في مسألة السلفية في النقاط الآتية:
*انقسمت السلفية على مدى التاريخ الإسلامي إلى قسمين؛ السلفية المطبوعة و السلفية المصنوعة، وهذان القسمان يتعلقان بقضية «صناعة الدين».
و يمكن إنجاز القول في وقبل تحديد ماهية السلفية المطبوعة ،نقف عند مصطلح «الطبع» وقف المذهب الحنبلي في وجه كل محاولة «لفكّرنة الدين» لاعتقاده أن أي «فكرنّة الدين هي مفسدة له و مفتتح لكل باب جالب للبدع الدينية والتقعر التعليلي للفرض الديني، وتطوير الطقس الديني».
وهذا الوقوف في وجه «الفكرّنة الدينية» لا يمكن أن نجعله «رديفا للطبع» لثلاثة أسباب هي:
1-القصدية في تحديد طريقة التدين، والقصدية هنا ترفع دلالة الطبع، لأن القصدية هي توجيه يخرج عن إرادة الفرد.
2-الفرضية ،ولاشك أن القصدية تنتج الفرضية أو الإلزام بالكيفية سواء السلوكية أو الفكرية،والكيفية غالبا ما تحميها إجراءات عقوبية مشددة، وهي إلزامية بدورها رافعة للطبع.
3-إحادية المصدر؛ إن التأطير بدلالة توثيقية خاضعة لمعيار عقوبي غالباً هو مؤسس التطرف الفكري والسلوكي؛ لأنه داعم لإنكار ما عداه.
لاشك أن التأطير المعرفي و الفقهي للسلوك الديني ضروري لحماية الدين من الخرافات و المداخلات الاجتهادية المتطرفة، لكن الضرورة هنا لا تلزم بأحادية الدلالة التوثيقية الداعمة للاستحواذ و الحصرية و الإغلاق و التطرف، بل الضرورة تقتضي توسيع التطبيقات النهضوية للسلوك الديني التي تُعين المسلم و مجتمعه على القبول الإيجابي للتطور و تثبت استدامة صلاحية الإسلام الحضارية.
أما فيما يتعلق بمفهوم السلفية المطبوعة فيمكن قياس معاييرها في الحديثين النبويين الآتيين
وفي حديث المصطفى عليه أفضل الصلاة و السلام الذي رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» وفي حديث آخر «البر ما سكنت إليه النفس و أطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون».
إن الأصل في الدين هو الوضوح، والوضوح يرفع الالتزام بضرورة الوصاية التفسيرية والإجرائية المؤدلجة لمناصرة مذهب دون مذهب، فالمؤمن يملك القوة المعرفية الذاتية للتمييز والاختيار، وهو قول يدعمه الحديث النبوي الآخر الذي يركّز على إحساس المسلم في التمييز بين الحق و الباطل، وهو ما يجعل الأصل في التمييز قدرة المسلم على الحكم على قيمة ونوع السلوك، لا كما تروجّ لنا بعض النظريات الفقهية أن القوانين الفقيه بمرفقاتها أن الحكم القاطع للتمييز على بيان قيمة ونوع الفعل هو قائم على القانون الفقهي واجتهاداته الفئوية.
كما أن القول الشريف يوضح لنا نقطتين، النقطة الأولى أنه موجه إلى عموم المسلمين فالمسلم يستطيع الاهتداء إلى الحق و الحلال من الباطل و الحرام ؛ فالدين واضح كالنهار، و في الحديث الثاني يراهن الرسول الكريم على الطاقة المعرفية بالدين الواضح الذي تناسب عقول كل البشر في كل زمان ومكان دون سلطة فقهية تستعمر عقول المسلمين أو تلزمهم بتقليد طائفة أو فئة.
أما النقطة الثانية فهي ما تركه لنا الرسول الكريم واضح لا غموض فيه ولا تعقيد و هذه طبيعة الإسلام، لا يحتاج المسلم إلى وسيط لفهمه ومعرفة حلاله من حرامه.
ومجمل القول إن هذا التقويم والتقييم الذاتيين الخاصين بالفرد القائمان على أصل الوضوح التي يتصف به الدين وأحادية التبعية الخاصة بالسنة النبوية يفنّد أي ادعاء بوصاية فقهية على فكر وسلوك المسلم يدعي كمالية الرؤية والإجراء.
وبذلك فالسلفية المطبوعة هي التي تتبع كل ما ورد عن الرسول الكريم دون ربط تلك التبعية وتوثيقها أو توكيدها بفئة أو طبقة.
والقسم الثاني السلفية المصنوعة، فهي تلك التي أُنتجت من خلال العلاقة الحلولية بين أصل مصدر السنة و الأثر التابع لها، وتلك الحلولية أزاحت مصدر الحلولية لمصلحة طبقة الأتباع بالأثر، باعتبار معروفية التوثيق، وهذه السلفية شكّلت خلاف أيديولوجي بين المسلمين حتى اليوم.
*ارتبطت السلفية المصنوعة بالمذهب الحنبلي باعتبار أحمد بن حنبل هو مؤسسها من خلال علاقة الحلولية تلك، أما بقية المذاهب الفقهية فلم تحجز شرط الانتماء لمذهب أهل السنة و الجماعة في السلفية المصنوعة، إنما في كلا نوعي السلفيتين، وهكذا أنتفت وجوبية إتباع الأثر و تقديمه على أصله لصحة الانتماء السلفي، كما لم يُمنع لمن أراد إتباع أصل السنة بمعية إتباع أصحاب الأثر.
إن تحديد أحمد بن حنبل رحمه الله سقفاً لتأطير مصدر تأويل العلم الفقهي بالصحابة و من سار على نهجهم، لاشك أنه تمّ بحسن نية قصد منها حماية أصل السنة من تسريبات أصحاب علم الكلام، ولذلك حصر مصدر تمويل الفقه بمن يطمئن إلى سطحية فكره، و المراد هناك بالسطحية البعد عن التعقيد الفكري لعلم الكلام.
*السلفية الحنبلية أسست علاقة الصراع بين السنّة والشيعة.
*السلفية الحنبلية و ما أُضيف عليها فيما بعد من تمحور تطرفي تتحمل اليوم ظهور الحركات الدينية المتطرفة المسلّحة التي استباحت دم كل من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله باسم تلك السلفية التي الله ورسوله منها براءة حتى يوم الساعة.
*حسن الظن بالصحابة وإن ما سعوا إليه من تضييق على مصدر تمويل الفقه إنما كان قصدهم الخير للإسلام، ولا يتحملون تطرف من سار على نهجهم بإضافة عصبية دينية ورثها العرب عن جاهليتهم، فغفر الله لهم و لنا.
أما أبرز نتائج السلفية على فكر المسلمين السنّة يمكن إجمالها في الآتي:
* صناعة العقيدة الاصطفائية، وما ترتب على هذه الصناعة من تشريع قانون التكفير.
* ترسيخ التقليد الذي أورث السنّة من تطرف وإرهاب.
* انقسام المسلمين بين سلفي متطرف وسلفي وسطي.
* ظهور عقيدة الولاء والبراء التي أنشأت العداوة والبغضاء بين السلفيين المتطرفين والآخر، فلم يراعوا حرمة غير المسلم الذي بينه وبين المسلمين ميثاق سلام.