سهام القحطاني
إن كل صراع ثقافي غالباً ما يتمحور حول الأفكار سواء على مستوى تكوين بنيتها أو مستوى ما تمثله من تقدير أصليّ أو اعتباري تتشكّل منه السلطة العامة للمجتمع.
ويجب أن لا نستهين بالأفكار فهي التي تشكّل العقائد والحقائق والمسلّمات وشعائر المعرفة ولذلك تتحول إلى مصدر صراع ثقافي ومن يملك القدرة والقوة والتأثير على ذلك التشكيل هو الذي يتحول إلى روح السلطة.
أما لو أردنا تقديم تحليل موجز لمفهوم الصراع الثقافي فيجب أن نقف أمام إيحاءات «السلطة الفكرية».
فالصراع هو تقابل بين قوتين وسلطتين، وهو تقابل قائم على «مسلّمة اليقين» من جانب و»المرجعية الصّحيّة» من جانب آخر، وقد يعتبر البعض أن مقابلة «اليقين بالصّحة» مقابلة غير متكافئة؛ لأن «الصّحة» لا ترقى لمستوى «اليقين» وبالتالي فالتقابل يعتريه الفساد.
والحقيقة أن هذا الاعتقاد يُعدّ من الأسباب الوجيهة للصراع الثقافي؛ أي عدم التساوي في قيمة ونوع مصدر التقابل من جانب من يُروّج «لمسلّمة اليقين» وهذا الجانب يربط مسلّمة اليقين بمصدر إلهي ونوع المصدر ها هنا يغلق سقف الإضافة والتعديل كما أن في هذا الإغلاق تنزيهاً كليّاً عن وقوع خطأ سواء بالفاعلية أو الاحتمال، وهو تنزيه يقطع أي جدل أو حوار أو مراجعة فكرية.
في حين من يربط تفعيل وتفاعل الأفكار بالمرجعيّة الصحيّة يعتمد على أنسنة المصدر، وهي أنسنة تترك الباب مفتوحاً لاحتمال الخطأ والتعديل والإضافة، كما تترك الباب مفتوحاً لأي جدل وحوار ومراجعة فكرية وبذلك نجد أنفسنا أمام حجة توثيقية لجدلية الإنكار من قِبل كلا الجانبين؛ إنكار لعصمة التنزيه وإنكار للتشكيك في عصمة التنزيه.
أما ما الذي أقصده «بالمرجعية الصحيّة»
وقبل أن نتوقف عند المقصود بالمرجعية الصحيّة علينا أن نذكر نبذة عن «ماهية تاريخ الأفكار».
قبل ظهور الأديان كانت التجارب الإنسانية هي التي تؤسس تاريخ الأفكار ووفق ذلك فقد تمّ التأسيس من الحسي إلى المعنوي فالعقليات هنا هي حاصل التجربة الحسية للأفراد، لكن ما لبثت الفلسفات ما قبل الأديان أن تنهض بمستوى مصدر تأسيس تاريخ الأفكار من تلك الحسية الأولية والمعنوية السطحية لتُنبت لها جذور عقلانية معقدة، أو بناء إطار عقلي لتجربة عقلية وهو ما يُرقي إلى التجذيرية الفكرية وبذلك تحولت تلك الفلسفات بدورها إلى مؤسِس لتاريخ الأفكار.
وبعد ظهور الأديان أصبح الدين هو الذي يؤسس تاريخ الأفكار وفي ظلّ الأفكار الكبرى للدين التي استلزمت تنظير تشريعات سنّها القساوسة ورجال الدين، أصبح هناك دين موازٍ بالتفصيل بجوار الدين في إطار أفكاره الكبرى، والذي أصبح بالتقادم أقصد الدين الموازي أحادية عبر الاندماج، تلك الأحادية التي فرضت قطبية محصورة في منفردات مغلقة متطرفة سواء بالإيجاز أو القطعية، وفي ظل هذا التضييق الفكري ظهرت الفلسفات الدينية التي حاولت فك الشفرة الأحادية التي أحاطت بالتشريعات التفسيريّة للدين في جوهر أفكاره وأنسنته بما يتوافق مع المتطلبات النهضوية وضروريتها، وبذلك أصبح للفلسفات الدينية نصيب في تأسيس تاريخ الأفكار، لتنقل مخرجات الأفكار الكبرى للدين من حاصلها الأحادي إلى حاصل متعدد الرؤى والتفسيرات والتأويلات.
ومع تطور الإنسان والاكتشافات ودخول العلم كمكون للحضارة أصبح العلم سواء التجريبي أو التنظيري مؤسساً لتاريخ الإنسان.
وبذلك نجد أنفسنا أمام عدة مصادر لتأسيس الأفكار يتقاطع أغلبها وهذا التقاطع غالباً هو مصدر الصراع الفكري ويشتدّ الصراع بين مُؤسِسات تاريخ الأفكار كلما اقتربت من تكوين سلطة يتقيد بها الأفراد والمجتمعات والشعوب، لأن السلطة لا تتحقق لأي مؤسس لتاريخ الأفكار إلا من خلال اتصافه «باليقينية المطلقة»، هذا الاتصاف الذي يُعدّ من باب «الاقتران الضروري».
أما مبدأ «اليقينيّة» فيختلف بين طرفي أي صراع ثقافي وفكري من حيث درجة اليقين وصلاحيته، وبذلك فإن اليقين بالنسبة للمرجعيّة الصحيّة يرتبط بتوثيق معتمد صحيح الإيجابية لصلاحية محددة، وبهذا يُصبح لليقين ذاته تاريخ صلاحية مرتبط «بتجواز التداول» أو «الاصطدام به»، وبذلك تُصبح الضرورة التداولية هي علامة تاريخ صلاحية اليقين.
وهذا ما يرفضه أنصار «اليقين المطلق»، فهم يرون ديمومية اليقين وأن المتغير لا يتعلق باليقين إنما بذات المتغير النهضوي المتعلّق بفاعلية التداول.
إن «الصحيح» يعادل «اليقين» أو فلنقل «الاعتبار اليقيني» عند أحد طرفي الصراع.
فهل يمكن أن يتحول وفق منطق هذا الطرف «الصحيح» إلى «يقين محدود الصلاحية»؟.
قد يعتبر البعض أن الصحيح هو اقتران بالسببية «لليقين ذاته»، وبذلك فالقيمة النهائية هي التي تتحكم بمصدر أو مؤسِس الأفكار أو ما يُسمى «بمبادئ الاقتران».
لا شك أن الأفكار ليست معلومات، إنما هي إطار لتنظيم الأنماط والعلاقات والتصورات والكيفيات الاعتقادية، وهذا الإطار هو الذي يحرك شعائر حياة الفرد والمجتمعات، أو هو الذي يُسهم في نشأة الترافق الإجرائي الذي يتحرك فيه الفرد والمجتمع.
أما اليقين في عرفه المطلق، عند الطرف المؤيد له لا يمكن أن يعادل الصحيح أو اليقين محدود الصلاحية؛ لسبب؛ أن ليس هناك ما يُسمى يقين محدود الصلاحية أو مطلق الصلاحية، فالمطلق وصف ثابت لليقين لا يمكن ربطه بالصلاحية المحدودة، ولهذا يخرج اليقين من كونه مؤسِس يتحكم فيها المتغير الإنساني إلى مؤسِس ثابت المصدر لا يُمكن أن يخضع للمتغير الإنساني، إنما المتغير الإنساني هو الذي يخضع له بسبب ارتباط اليقين بمصدر إلهي.
وهذه الثنائية أصل الجدل الذي لا يزال يحركها المنطقيون والقائمة على «مالله لله وما لقيصر لقيصر» فما حقيقة هذه المحاصصة الفكرية.؟