اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
حفلت زيارة سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، التاريخية، إلى أرض الكنانة العريقة، كما رأيتم، بترحيب منقطع النظير، يليق بقائد كبير مثل سلمان، الذي يحمل هم الأمة، ويسعى لخير البشرية، وسلام العالم وأمنه واستقراره، من أهل مصر الكرام.. مصر الأصالة والإيمان والأخوة والحب، كما يقول عنها رئيسها الأسبق الراحل، محمد أنور السادات؛ قيادة وحكومة وشعباً، الذين غمروا سلمان، بمشاعر فيَّاضة، يكاد دفؤها يدخل كل بيت سعودي، بل كل بيت عربي وإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، لما مثّلته هذه الزيارة التاريخية الاستثنائية، من رسالة حاسمة مفاجئة، كحزم سلمان وعزمه وحسمه، وشجاعته وقدرته على اتخاذ القرار، لأن الكل يدرك أن الرجل الصادق المؤمن الثابت، القائد الفذ، يسعى لخيره، بل ينشد أمنه وطمأنينته ورفاهيته وخدمة رسالته.
ومثلما حُظِيَ الضيف الكبير بما يستحق من ترحيب استثنائي، من مضيف عريق أصيل، كذلك حُظِيَت الزيارة بتغطية إعلامية استثنائية من وسائل الإعلام بشتى أنواعه، في البلدين الشقيقين الكبيرين المهمين الإستراتيجيين، بل قل تناولت وسائل الإعلام في العالم كله، صدى الزيارة وأبعادها المستقبلية، وما يمكن أن تفضي إليه من تغيير إستراتيجي فريد، يؤثر بدرجات متفاوتة على كل مناحي الحياة في العالم، لاسيما في دول المنطقة.
والحقيقة، أجدني اليوم في غنىً تامٍ عن إعادة ما سبق أن تناولته وسائل الإعلام من مراسم الاستقبال المهيب لملك الخير سلمان في قصر الاتحادية، وأصوات المدافع التي انطلقت (طرباً) ترحيباً بمقدمه الميمون، واصطفاف أبناء النيل الأوفياء من كل الأعمار، على جانبي الطرقات في كل مكان، مرحبين بمقامه السامي الكريم، وتلك الحُلَّة الزاهية التي تزيَّنت بها قاهرة المعز، احتفاءً وفرحاً وعرفاناً وامتناناً بمقدمه السعيد وتشريفه لها.
كما أجدني أيضاً في غنىً تامٍ عن إعادة ما حملته الزيارة لمصر من تباشير وخير هي أهل له، تمثل في أكثر من عشرين مشروعاً في مختلف المجالات، وصندوق استثماري بستين مليار دولار، يعد أكبر صندوق استثماري سعودي بين المملكة وأية دولة أخرى في العالم؛ مما يؤكد مكانة مصر لدى السعوديين. فضلاً عن الجسر (الحُلْم)، كما أكد كل من تحدث عن زيارة العاهل الكبير لأرض النيل، بين البلدين، الذي يمثل منظومة نقل بري متكاملة، ويعد أحدث اختصار للزمن في التجارة الدولية والتواصل بين الشعوب، مما جعل منه صفعة مدوِّية لـ(مافيا المؤامرة) التي أصبحت كالمرض المستوطن في جسد الأمة العربية والإسلامية، لا يهدأ له بال إلا بتقويض كل بادرة أمل لتوحيد شعوب المنطقة وتعاونها، وترسيخ العلاقة بين بعضها البعض، بما يحقق مصالحها في استقلال تام عن هيمنة الغرب واستغلاله وتسلطه عليها.
كما أنني لست في حاجة أيضاً لإعادة ما سبق الحديث عنه، في شتى وسائل الإعلام في البلدين، عن العلاقات التاريخية المميزة بينهما، ووحدة المصير المشترك، غير شيء وحيد مهم في نظري:
فكل ما قرأته في هذا الشأن، ذكر أن معاهدة الصداقة بين السعودية ومصر عقدت عام 1345هـ (1926م).. والصحيح، أنها عقدت في السادس عشر من شهر صفر 1355هـ، الموافق السابع من مايو عام 1936م، وهو العام نفسه الذي مات فيه الملك فؤاد. وتم العمل بها في الثامن من نوفمبر من العام نفسه أيضاً. أما ما حدث عام 1345هـ (1926م)، فكانت زيارة (الأمير) سعود بن عبد العزيز، بتكليف من والده إلى مصر، لتهيئة الجو مع الملك فؤاد. فهذا تاريخ، لا بد من توثيقه بشكل دقيق للأجيال القادمة.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، كان حري بنا أن نتذكر هنا، تأكيداً على تلك الثقة المتبادلة والتعاون المشترك، توقيع الملك فاروق، نيابة عن أخيه الملك عبد العزيز، على أول وثيقة عربية تجمع العرب حول مائدة واحدة، إيذاناً بقيام جامعة الدول العربية، في 28-6-1365هـ، ـ الموافق 29-5-1946م، مع حضور (الأمير) سعود بن عبد العزيز آنئذٍ مؤتمر القاهرة، دليلاً على تلاحم البلدين في دعم العمل العربي المشترك؛ وتأكيداً على صدق نيَّة الرجل الصالح عبد العزيز آل سعود، في نظرته الشاملة لوحدة المصير، والعمل من أجل خير الجميع.
قيادة استثنائية:
أقول.. تلك كلها أمور تناولها الإعلام في البلدين، بأدق ما اشتملت عليه من تفاصيل، ولست في حاجة لإعادتها هنا. ولهذا، أركز في مقالي اليوم على شخصية القادة العظماء الاستثنائيين في البلدين، الذين حققوا لنا ما نعيشه اليوم من مودة ومحبة وتعاون على البر والتقوى، من أجل خير العالم كله، كما يردد الرجل الصالح، المؤمن الصادق، سلمان دائماً: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، امتثالاً لأمر الحق سبحانه وتعالى، في تلك الآية العظيمة التي ختم بها سلمان كلمته في مؤتمر القمة الإسلامية الأخير بتركيا؛ ويا ليت الجميع يستجيب لهذا التوجيه الإلهي، الذي يعد أعظم وسيلة وأنجعها لتحقيق العدل والسلام والأمن والاستقرار، أداءً لأمانة الاستخلاف في الأرض.
وبالطبع، لن يسعني الوقت للعودة إلى الماضي السحيق؛ ولهذا أبدأ حديثي من عهد المؤسس، والد الجميع، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه، الذي عرفه العالم قائداً فذاً، وبطلاً جسوراً، ومقاتلاً شجاعاً، وحاكماً عادلاً، لا يخشى في الله لومة لائم، وسياسياً بارعاً، وحكيماً داهية، ورجلاً صالحاً، صادقاً مع ربه، شديد الإيمان به سبحانه وتعالى، والثقة في نصره وتأييده. هذا البطل المقدام، صاحب الرسالة التي تدعو لوحدة الصف، ولم الشمل، وجمع الكلمة. ولا يمكن لأحد في الكون أن يزايد على صدق عقيدته، واعتزازه بعروبته، وسعيه لعزة المسلمين والعرب وخيرهم، ولهذا كان دائماً يؤكد: (على المسلمين والعرب أن يطهروا حقوقهم ويتَّحدوا، لا أن يكتفوا بلعن الشيطان الذي يفرقهم، فالادعاء بأن الأجانب سبب هذه الفرقة وهذا التخاذل، فما هو بصحيح، لأن المسلمين والعرب، إذا كانوا في منعة من التعاضد والتكاتف، فليس هناك من قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم... إن مصائبنا من أنفسنا، والأغيار لم يقدروا على إذلالنا إلا بعد أن رأوا منَّا العداوة لبعضنا، فاللوم واقع علينا لا محالة). كما أنه كان أول من وضع (العربية) في اسم الدولة، وهو أحد أهم القادة المؤسسين لجامعة الدول العربية.
ولهذا لاغرو أن يدفعه اهتمامه بحماية خليج العقبة من إسرائيل، ليكتب إلى أشقائه في مصر عام 1370هـ، الموافق 17-1-1950م، منبهاً لهم للحيلولة دون وقوع جزيرتي تيران وصنافير (السعوديتين، اللَّتين لم يحدث حولهما نزاع مطلقاً بين البلدين الشقيقين، باعتراف كل من حكم مصر، حتى منذ عهد الدولة السعودية الأولى، بقيادة الإمام محمد بن سعود، بل حتى قبل ذلك، إذ كانتا تابعتان لمملكة الحجاز. فوضع يد مصر عليهما جاء استجابة لطلب الملك عبد العزيز، وليس اعتداءً، دون أدنى تفكير من القيادة المصرية آنئذٍ في ادعاء ملكيتهما، والدليل وجود أكثر من 160 وثيقة تؤكد حق السعودية القاطع في ملكية الجزيرتين، وفي الوقت نفسه عدم وجود حتى وثيقة واحدة تشير من قريب أو بعيد لأي حق لمصر فيهما).. أقول، صمَّم الملك عبد العزيز على ألا تقع الجزيرتان السعوديتان في مخلب الصهاينة، الأمر الذي يؤكد تقدم تفكير المؤسس الإستراتيجي، الذي سبق كل قادة عصره؛ بشهادة كل من وثَّق لتلك الحقبة من عرب وعجم. وفي هذا أيضاً رد قاطع على أعداء العرب والمسلمين، الذين يتجرؤون على اتهام السعودية بعدم مناصرة القضية الفلسطينية؛ ولو كان الأمر حقاً كما يزعمون، فكان عدم اهتمام الملك عبد العزيز بأمر الجزيرتين أعظم دعم للكيان الصهيوني، وأكثر ضربة موجعة لفلسطين والعرب والمسلمين، لما للجزيرتين من أهمية إستراتيجية لا تخطئها عين. فليخسأ أولئك العملاء المثبطين، المندسين على الأمة، فقد كان الرجل الكبير الاستثنائي عبد العزيز، يرى أن أرض العرب كلها للعرب كلهم، وخيرها لخيرهم؛ بل كان يتمنى لو يستطيع توحيد المسلمين والعرب في كيان واحد جامع، يعمل الجميع لنهضته، ويصبح هو خادماً لهم، كما أكد في أكثر من مناسبة، مُشْهِدَاً خالقه عزَّ وجل، على صدق نيته في خدمة المسلمين: (والله إنني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى التوحيد. ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التمسك بذلك، وليتفقوا، فإنني أسير وقتئذٍ معهم، لا بصفة ملك أو زعيم أو أمير، بل بصفة خادم. أسير معهم أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي، والله على ما أقول شهيد، وهو خير الشاهدين).
و لهذا، عندما صرَّحت مصر في العام نفسه (28-1-1950م) باحتلال الجزيرتين، شكرها عبد العزيز في 30-1-1950م، معرباً لأشقائه في أرض الكنانة عن امتنانه لحماية الجزيرتين من إسرائيل.
ويهمني هنا، كما أسلفت، التركيز على شخصية القائد، وتفكيره المتقدم، وبعد نظره، وثقته في إخوته العرب والمسلمين، وحرصه على خيرهم، والعمل معهم يداً واحدة من أجل مصلحة الجميع؛ لاسيما مصر، التي كانت لها مكانة كبيرة في نفس عبد العزيز، وتفكره الإستراتيجي، لإدراكه ما تتمتع به من موارد بشرية ومادية وموقع مهم فريد في خارطة العالم، كونها جسراً مهماً يربط غرب العالم بشرقه؛ ولهذا كان عبد العزيز دائم التأكيد على موظفيه المعنيين برعاية العلاقة مع أرض الكنانة: (المصريون إخوتنا، فلا تعملوا ما يكدر خواطرهم). و يرى الاعتداء عليها كأنه اعتداء على الحَرَم نفسه، الذي هو جوهر رسالة عبد العزيز وأسرته وشعبه وبلاده. كما أكد عندما بلغه خبر اعتداء دول المحور على مصر، أثناء الحرب العالمية الثانية، قائلاً: (كنَّا نسمع أخبار التعدي على مصر، وكأنه اعتداء على الحَرَم، أو كأنه اعتداء على أعيننا). كما كان يوجه ممثليه دوماً في الجامعة العربية وغيرها من المحافل الدولية، ليؤكدوا دون أدنى مواربة: (نحن مع مصر، ونؤيدها في حقوقها)، في كل ما تعرضت له من ظلم واعتداء من الغرب عبر تاريخها الطويل وكفاحها المرير.
وأوجز كثيراً مما يمكن أن استرسل فيه، فيما يخص علاقة المؤسس المتميزة مع مصر، وإدراكه لدورها وأهميتها، وحرصه عليها؛ دون أن أصل إلى نهاية، في ما جاء على لسان الأديب المؤرخ، خير الدين الزركلي، في مؤلفه الشهير: (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز)، إذ يقول: (صرفت ثمانية عشر عاماً، من سنة 1353 - 1371هـ، الموافق 1934 - 1952م، منقطعاً على تمثيل الملك عبد العزيز، وقضاء مصالحه الإدارية والسياسية، والخاصة والعامة، في بلاد وادي النيل. وما كتب لي يوماً بشأن مصر، و لا سمعته يتحدث في سرٍّ أو علنٍ عن مصر، إلا بما فيه الحرص والحض على حسن العلاقة، وتوطيد الحب والصداقة، بينه وبين المصريين حكومة وشعباً).
على خطى المؤسس:
وعلى خطى عبد العزيز، سار أبناؤه الكرام البررة، في علاقتهم مع مصر، بل في كل شيء، حسبما أراد لهم والدهم، لتستمر شمس هذه الرسالة الخالدة مشرقة إلى الأبد، تنثر الخير والحب والوئام والأمل، جمعاً للكلمة، وتوحيداً للصف، وخدمة للأمتين العربية والإسلامية، وسعياً لخير البشرية في كل أصقاع الدنيا؛ تحقيقاً لرسالة بلادهم، التي خصها الله بأول بيت وضع للناس ومثوى رسوله الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وخدمة قاصديهما من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم.. فعملوا بكل ما أوتوا من قوة وقدرة وسعة حيلة، على توحيد الشعوب، بصرف النظر عمَّا طفا على السطح أحياناً من هنَّات هنا أو هناك. بداية من عهد الملك سعود، الذي أعلن تأييده المطلق، دونما أدنى تحفظ، لمطالب مصر بجلاء الإنجليز.
أما الفيصل، الذكي الشجاع، فكان يردد دائماً أن مصر هي الصخرة الصلبة التي تتحطم عندها أطماع إسرائيل ونيَّتها التوسعية؛ داعياً لدعمها بسخاء لكي تقوى على الصمود. وليس أدلَّ على هذا من موقفه الفريد في قمة اللاَّءات الثلاثة الشهيرة التي عقدت بالعاصمة السودانية الخرطوم، عام 1387هـ - 1967م؛ إثر النكسة، عندما أثير جدل كبير حول المبلغ المطلوب لتمكين دول المواجهة من الصمود، ومن يدفعه أو يساهم فيه، وحصة كل بلد، وإلى من تدفع الأموال. فسارع الملك فيصل للإعلان، حتى قبل انعقاد المؤتمر ولقاء الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، إلى أن السعودية مستعدة لتحمل جميع الخسائر التي تسببت فيها الحرب، خاصة على مصر وغيرها من دول المواجهة (وفي هذا أيضاً رد يخرس كل لسان مخاتل، يحاول التقليل من جهد السعودية في خدمة قضايا الأمة، التي لم تغب يوماً عن ذهن قادتها وتفكيرهم. ففلسطين هي جوهر الهم السعودي، ليس من باب المزايدة والشعارات الجوفاء؛ بل انطلاقاً من المسؤولية العظيمة التي نذر السعوديون نفسهم لتحملها). وأمام إصرار السودان على ضرورة مشاركة الآخرين، تقاسمت السعودية والكويت المبلغ وشاركتهما ليبيا. أما دور الفيصل في قيادة معركة سلاح النفط في حرب 1393هـ - 1973م، وما ترتب عليه من نصر مؤزَّر، فأشهر من أن أذكِّر به هنا. أما في عهدي الملك خالد والملك فهد، فيكفي أن أشير فقط إلى أن تعاونهما مع مصر وبقية الأشقاء في الجامعة العربية، أسفر عن مبادرتين للسلام، سعياً لحل (لغز فلسطين) الذي (غلب الطبيب المداويَّ)، كما يقولون حتى اليوم؛ الأولى: خطة الملك فهد للسلام، التي أقرتها القمة العربية في فاس بالمملكة المغربية عام 1402هـ - 1982م. والثانية: مبادرة السلام العربية، التي قدمتها السعودية في قمة بيروت عام 1423هـ - 2002م.
ثم يجيء الملك عبد الله سائراً على الدرب نفسه، مؤكداً: (الشعب المصري شعب أصيل في عروبته، أصيل في إسلامه، أصيل في تحسسه، و لا يمكن لنا أن ننسى ما لمصر من وزن بشري وقدرة عسكرية، ومكان في تاريخنا العربي. ولا خلاف أن للشقيقة مصر مركزاً إسلامياً مرموقاً، ووزناً عربياً متميزاً؛ فمصر كانت، وما تزال وستبقى، في غاية الأهمية بالنسبة للعروبة والعرب، وبالنسبة للإسلام والمسلمين، فالعروبة تتكامل وتكتمل بمصر، ومصر لا تتكامل و لا تكتمل إلا بالعروبة والإسلام، وإن ما يربطنا بمصر ليس برباط مصلحة أو ظروف، و لا حتى جوار، بل إنه وشيجة الأخوة الصادقة في الضراء قبل السراء).
صفعة مدوِّية:
واليوم، يواصل قائد الحزم والعزم والحسم، العاهل الكبير سلمان، سلم من سالم و سم من عادى وظلم، المسيرة الخالدة الظافرة، حاملاً الراية العظيمة ذاتها، بكل قوة وقدرة وشجاعة، فأدهش الدهشة، وفاجأ المفاجأة كعادته دائماً؛ ولم يستطع حتى مرافقوه من وفده الإعلامي، الجزم بما يمكن أن تحمله زيارة ملك الخير لأرض الكنانة؛ غير أن أحدهم (الأستاذ سلمان الأنصاري) كان أقربهم للحقيقة عندما سئل عمَّا يمكن أن تحمله زيارة (أبو فهد) التاريخية لمصر، فأكد بعد أن تحدث عن أشياء كثيرة: (لا أدري بالتحديد؛ غير أنني واثق أنها تحمل مفاجأة ما). فيأتي صوت قائدنا سلمان واثقاً راسخاً ثابتاً مجلجلاً، من قصر الاتحادية، مؤكداً صدق حدس الأستاذ الأنصاري: (... وامتداداً لهذه الجهود المباركة، فقد اتفقت مع أخي فخامة الرئيس على إنشاء جسر بري يربط بين بلدينا الشقيقين، اللّذين يقعان في قلب العالم. إن هذه الخطوة التاريخية، المتمثلة في الربط البري بين القارتين الآسيوية والأفريقية، تعد نقلة نوعية ذات فوائد عظمى، حيث سترفع التبادل التجاري بين القارات، وتدعم صادرات البلدين، كما سيشكل الجسر منفذاً دولياً للمشاريع الواعدة، ومعبراً أساسياً للمسافرين من حجاج ومعتمرين وسيَّاح). وعندما تداخل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مستأذناً المليك المفدى لتسمية الجسر بـ(جسر الملك سلمان بن عبد العزيز)، سارع سلمان الذكي اللَّماح معقباً: (بل نطلق عليه جسر القلوب).. ترسيخاً لرسالة بلاده التي تحمل المحبة والخير والأمن والسلام للعالم أجمع. ثم ينتهز سلمان فرصة مخاطبة مجلس النواب ليؤكد متانة ما تحمله نفسه الكبيرة من فكر مستنير وأمل كبير: (... وقد كان من ثمرات الجسر الأولى ما تم الاتفاق عليه بالأمس للعمل على إنشاء منطقة تجارة حرة في شمال سيناء، وهذا سوف يساعد في توفير فرص عمل وتنمية المنطقة اقتصادياً... وسنصبح أقوى، بإذن الله، باستثمار الفرص التي ستنعكس بعائد ضخم على مواطنينا وعلى الأجيال القادمة). ثم يمضي لآخر حديثه، مركزاً على ضرورة محاربة التطرف وتوحيد الجهود من أجل خير المنطقة والعالم... إلخ.
والحقيقة، أجد في إعلان إنشاء هذا الجسر مفاجأة المفاجآت، بل قل مفاجأة القرن، لأنه أهم قناة لربط عرب إفريقيا بإخوتهم في آسيا، ثم إنه نافذة غاية في الأهمية لربط غرب العالم بشرقه، وتسهيل تدفق الحجيج إلى الديار المقدسة، ووسيلة مهمة لتعزيز مكانة البلدين الإستراتيجية، كما أكد المليك المفدى. وهو يشكل بهذا كله (لطمة مدوِّية) للغرب أولاً ثم لإسرائيل. فكلنا يدرك يقيناً أن أهم أهداف الغرب من غرس إسرائيل في خاصرة الأمة العربية، تمثّل بالدرجة الأولى في قطع طريق التواصل بين الدول العربية في القارتين، مما يسهل عليه وأد أي أمل في وحدة العرب، لكي يظلوا متفرقين ضعفاء، في حاجة دائمة لدعم الغرب ضماناً لبقائهم؛ وبالتالي يسيطر الغرب عليهم (بفزاعة) الحماية من إسرائيل وتوفير الدعم... وقائمة طويلة عريضة من الأوهام ووعود السراب؛ وفي تقديري أنه نجح إلى حد كبير في مخططه خلال القرن الماضي.
أما اليوم، وقد فاجأه سلمان بكل هذا الاستعداد الفريد المدهش لجمع كلمة العرب والمسلمين وتوحيد صفهم، بداية من عاصفة الحزم، التي لم يتجاوز الغرب هول مفاجأتها حتى الآن، مروراً بتشكيل تحالف عربي قوي من أربعين دولة في لمح البصر؛ مما ضاعف ذعر الغرب، إلى هذا الجسر البري الذي يسحب البساط من الكيان الصهيوني والغرب على حد سواء، إذ كان بمثابة (تاريخ نهاية الصلاحية) لدور إسرائيل المتآمر.. أقول، أما وقد حقق سلمان هذا كله في هذه الفترة الوجيزة من عهده المبارك، بجانب ما حققه من إصلاحات داخلية، أهمها سعيه الدءوب لإيجاد مصادر دخل ثابت غير النفط.. كل هذا جعل فرائص الغرب وإسرائيل ترتعد من إقدام قائد جسور مخلص لأمته ورسالته، لا يخشى غير الله في أداء ما أؤتمن عليه من أمانة عظيمة.
ولهذا أؤكد لكم أن الغرب وإسرائيل سوف يستميتان في وضع العقبات أمام تنفيذ هذا الجسر الذي هو (حُلْمُ) الأمة حقاً، لإدراكهما خطورته الحقيقية على مشروع (المؤامرة) الذي خدرا به العرب والمسلمين قرناً كاملاً؛ نهبوا فيه الثروات، وأعادونا عقوداً للوراء بسبب ما بثوه في مجتمعاتنا من طائفية مقيتة وحزبية نتنة، لينحصر تفكيرنا كله في تأمين وجودنا، فيما يتفرغون هم للبحث والتطوير والصناعات لرفاهية شعوبهم.
لكن هيهات، فقد جاءهم قائد لا قبل لهم بهمته التي لا تعرف المستحيل، قائد تتطلع نفسه دوماً لصعود الجبال، بل للتحليق عالياً في الثريا، يكره أن تعيش أمته أبد الدهر بين الحفر، بل لا يرضى لها ذلك؛ حتى لا يصدق فيها قول الشاعر أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
ترسيخاً لوصية المتبني التي أقرَّها من قديم:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دن النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
وخلاصة القول، مثلما كان لمصر تلك المكانة المتميزة في نفس قادتنا الكرام، كذلك اليوم تحظى بالمكانة نفسها لدى قائد الأمة سلمان، أوجزها في تغريدته البليغة، التي تعبر عن كل ما يعتمل في نفسه الكريمة تجاهها، لدى وصوله إليها: (لمصر في نفسي مكانة خاصة، ونحن في المملكة نعتز بها، وبعلاقتنا ا لإستراتيجية المهمة للعالمين العربي والإسلامي، حفظ الله مصر، وحفظ شعبها).
ويسألونك عن المؤامرة:
أما الحديث عن (مؤامرة) الغرب علينا، فمعيني منه لا ينضب، ولهذا لن أغوص كثيراً في تفاصيله لأن المجال لا يتسع، وعليه أكتفي بثلاثة نقاط سريعة، حدثت اليوم وأنا أكتب مقالي هذا:
* عندما توصلت القيادتان، السعودية والمصرية، لإعلان عودة جزيرتي تيران وصنافير لأهلهما، كما أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: (رجعنا الحق لأصحابه)، استشاطت أمريكا غضباً على هذا التوافق والانسجام، ولم تصدق قيام بعض المغرضين باحتجاجات ضد هذا التوافق الفريد في (جمعة الأرض)؛ لتعلن مراقبتها بقلق شديد لما يحدث من انتهاك للحريات في مصر، في إشارة سالبة لتأجيج الشارع المصري، وتحقيق (نظرية الفوضى الخلاقة) التي قطع المصريون الطريق أمامها بحكمتهم؛ مع أن أمريكا هي أول من يعلم بحقيقة الوضع فيما يتعلق بهاتين الجزيرتين وحق السعودية فيهما.. أليست هي (سيِّد العارفين) كما تزعم دائماً.
* في الجمعة السابقة لما عرفه المغرضون في مصر بـ(جمعة الأرض)، التي حُفِرَ تاريخها في ذاكرتي (1-7-1437هـ، الموافق 8-4-2016م) دكّت قذائف الجيش العراقي سوقاً شعبياً (سوق الجمعة) في الفلوجة، على رؤوس الباعة والمتسوقين، معظمهم نساء وأطفال، فتناثرت أشلاؤهم في كل مكان، لتختلط بالمعروضات، فضلاً عن عشرات الجرحى الذين لم يجدوا حتى الضمادات لمنع النزيف.. في اللحظة هذه نفسها، يعتلي وزير خارجية أمريكا (جون كيري) المنصة ليخاطب الصحفيين: (إن الذي يهمنا الآن هو القضاء على داعش)!
ثم تفيق أمريكا فجأة، بعد (غيبوبة) ثلاثة وثلاثين عاماً، (لتغرم) إيران، مع اختلافنا معها، ملياري دولار بسبب جريمة إرهابية ضد جنودها في سفارتها ببيروت، حدثت عام 1404هـ - 1983م؛ أودت بحياة أكثر من مائتي عنصر!
* بل أكثر من هذا، قبل يومين فقط من وصوله المملكة للمشاركة في القمة السعودية - الأمريكية، صرح الرئيس الأمريكي نفسه (باراك أوباما): (لن يتم حل المشكلة في سوريا، إلا بتوافق أمريكي - روسي). أي بما يضمن مصالح القوتين المتنافستين؛ بصرف النظر عن رحلة الجحيم تلك، للحدثين (غيث وعبدول) من لحظة سقوط البراميل المتفجرة على رؤوس أسرتيهما وإبادتهما، وتشردهما في سكة الجحيم، حتى انتهى بهما المطاف في دور الأيتام والمشردين في السويد وألمانيا؛ كما ظهرا على قناة الـ(BBC)، مساء الاثنين (11-7-1437هـ، الموافق 18-4-2016م).. ومع هذا، يعدان أسعد حالاً من كثير من أطفال سوريا، الذين تتقاذفهم البحار ومخيمات اللجوء، التي يتعرضون فيها لانتهاكات صارخة لكرامتهم وأعراضهم. ومع هذا كله، لا يقلق الغرب إلا لمصالحه في المنطقة؛ حتى إن انتهى الطريق بكل شعوب المنطقة إلى الجحيم!
شكراً (أوي) مصر:
والحقيقة، كل الشكر من بعد الله، للإخوة الأعزاء في مصر قيادة وحكومة وشعباً، لاسيما الإعلام المنصف الواعي، المدرك لرسالته وحجم (المؤامرة)؛ فانبرى منذ اللحظة الأولى لتنوير الرأي العام بحقيقة الوضع فيما يتعلق بجزيرتي تيران وصنافير. وشكر خاص لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أكد لشعبه وللرأي العالمي عموماً الحقيقة بالوثائق التي لا تقبل جدالاً؛ إلا من المغرضين. وأنتهز هذه السانحة، لأناشد الإخوة في مصر والسودان والمغرب والجزائر، وفي كل بلدين أو أكثر من عالمنا الإسلامي والعربي، بينهما خلاف ما على حدود مشتركة، أن يستلهموا تجربة السعودية ومصر في معالجة حالة هاتين الجزيرتين، لوضع حدٍ لتلك النزاعات التي اصطنعها المستعمر (المتآمر) لتبقى (سوساً) ينخر جسد الأمة إلى الأبد.
وعلى كل حال؛ لا أرى أن الأمر يشكل معضلة حقيقة، طالما نسعى اليوم كلنا لتحقيق الوحدة الإسلامية - العربية. وكل ما أتمناه أن نرتقي جميعاً لتطلعات مليكنا المفدى في جمع الصف وتوحيد الكلمة، لنشكل هيئات إسلامية - عربية خاصة، لعلاج مشاكلنا؛ بعيداً عن هيئة الأمم (المتآمرة) على العرب والمسلمين؛ مع أننا (57) دولة من (195) دولة هي مجموع دول العالم، أي أننا نشكل نحو (30%) من العالم الذي جعلنا نعيش على هامشه لأكثر من قرن؛ بل يُفَصِّل القوانين بما يضمن السيطرة والهيمنة له هو وحده، دون أن يكون لنا رأي أحياناً حتى في شؤوننا الخاصة!
حفظ الله مصرنا:
وصحيح، الحديث يطول، لأن النفس مثقلة بكثير مما يود المرء قوله؛ غير أنني مضطر أن أتوقف هنا اليوم على أمل أن نستكمل لاحقاً. و لا أجد ما أختم به حديثي هذا، أفضل من تلك الكلمة البليغة الصادقة في حق مصر ودورها ومكانتها عندنا، مما أكده المؤسس والد الجميع، الملك عبد العزيز آل سعود، طيَّب الله ثراه، إذ يقول إثر عودته من زيارته الشهيرة لأرض الكنانة، كما كان يحلو له أن يسميها: (أحمد الله إذ أعود إليكم من بلاد هي بلادي وبلادكم، مصر العزيزة، بعد أن لاقيت فيها، في كل شبر مشيت فيه، من الحفاوة والإكرام ما لا يحيط به الوصف، و لا يفي بحقه وافر الشكر. فقد كانت قلوبهم تتكلم قبل ألسنتهم، بما تكنُّه لي ولكم ولبلادكم، من حب لا يماثله إلا ما أشعر به من حب عميق لمصر وأهلها.. ليس البيان بمسعفٍ في وصف ما لاقيت في مصر، ولكن اعتزازي أني كنت أشعر أن جيش مصر العربي هو جيشكم، وأن جيشكم هو جيش مصر. وحضارة مصر هي حضارتكم، وحضارتكم هي حضارة مصر؛ والجيشان والحضارتان جندٌ للعرب، وركن من أركان حضارتهم.. بهذه الروح أعود إليكم، وليس لي وأنتم تستقبلونني، وأنا استقبل البيت الحرام، إلا أن أدعو الله أن يحفظ الكنانة، وأن يبلغها مناها من الهناء والسعادة).
فاللّهم أحفظ لنا مصرنا، وقيادتنا ومملكتنا التي أصبحت اليوم عاصمة مهمة في صياغة القرار السياسي؛ يؤمها زعماء العالم من كل فج عميق، ليجدوا الحلم والحكمة والحزم والعزم والحسم، والكرم والشهامة والمروءة، وكل الخصال الحميدة.