اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
في واحد من أهم الكتب التوثيقية أصدر اللواء الدكتور بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود كتابه «نايف الإنسان.. أسطورة الأمن والأمان» رصد من خلاله أهم ما قيل وكتب عن فقيد الوطن صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- في (447 صفحة) تحت عنوان «رجال صدقوا» موثقاً من خلاله أبرز ما قاله زعماء العالم وقادة الفكر والثقافة والأدب عن رحيل أسد السنة ودرع الوطن وعراب الأمن.
وقد استهل المؤلف الكتاب بكلمة ضافية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز تحدث فيها -حفظه الله- عن الملك المؤسس- طيب الله ثراه- وكيف كانت تربيته لأبنائه قائلاً:
إن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- عندما وحد المملكة العربية السعودية أرسى دعائمها على بنيان راسخ متين، عماده التمسك بالعقيدة الإسلامية السمحة، وخدمة الحرمين الشريفين اللذين شرف الله قادة هذه البلاد وأهلها بخدمتهما، وأعلى مكانة هذه الدولة باحتضانها لهما، وأنعم علينا بخيرات عظيمة وهبات كريمة.
وقد بنى الملك عبدالعزيز تربيته لأبنائه على أسس من الإيمان الصادق بالله العظيم وكتابه الكريم، والتمسك بهدي نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأن يكونوا جنوداً مخلصين لوطنهم الكريم، فحملهم أعباء المسؤولية في سن مبكرة.
وأضاف خادم الحرمين الشريفين إنه على هذه الأسس الطيبة نشأ وترعرع أخي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله-، متمسكاً بدينه، مخلصاً لمليكه، محباً لوطنه، فخدم دينه ووطنه على أكمل وجه، وبذل تضحيات مخلصة وعطاءات بناءة، حتى أصبح رمزاً للأمن والأمان في وطن أصبح مضرب المثل للأمن والأمان.
وقد كان للأمير نايف -رحمه الله- مكانة عظيمة في التاريخ السعودي الحديث، بما بذله من جهود مخلصة على مختلف الأصعدة للسهر على أمن هذه البلاد ووحدتها، واجتثاث منابت الفتن، وإعلائه مكانة المملكة عربياً وإسلامياً وعالمياً، وحرصه الدائم ومحبته الأكيدة لأبناء هذا الوطن.
نسأل الله للأمير نايف بن عبدالعزيز الرحمة الواسعة، وأن يجزيه خير الجزاء لقاء ما قدم لأمته ووطنه، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يعلي به درجاته في مستقر رحمته. والحمد لله رب العالمين.
قالوا عن نايف
ثم عرض المؤلف لأهم ما قيل عن الراحل الأمير نايف -رحمه الله- حيث قال عنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما: نحن في الولايات المتحدة الأمريكية نعرف الأمير نايف بن عبدالعزيز، ونحترمه على التزامه القوي بمحاربة الإرهاب ودعم السلام والأمن الإقليميين.
أما الرئيس الصيني جنتاو فقال: كان الأمير نايف بن عبدالعزيز حريصاً على تطوير العلاقات الصينية - السعودية فقدم إسهامات إيجابية في تعزيز عرى الصداقة بين البلدين، ولهذا فقد الشعب الصيني برحيله صديقاً عزيزاً.
أما الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي فقال: لقد ساهم الأمير نايف مساهمة فعالة في تعزيز العلاقات السعودية - اليمنية، ومكافحة الإرهاب، ودعم العمل العربي المشترك، ورحيله خسارة، ليس فقط للشعب السعودي، بل للشعب اليمني أيضاً، الذي وجد في نايف الناصر والمعين عبدالله، والداعم له في أحلك الظروف. فقد كان رجل دولة، ومنظمة فكرية وأمنية جامعة، وشخصية سياسية محنكة، ولن تنساه الشعوب العربية مدى الحياة.
في حين قال عنه الملك عبدالله الثاني ملك الأردن: يعد الأمير نايف رجل الأمن العربي الأول، ومجهوداته مشهود بها، في بذل الجهد في خدمة حجاج بيت الله الحرام ورعايتهم. كما كان أحد الرجال العظماء الذين ساهموا في تعزيز منظومة الأمن العربية، وترك بصمات في جميع المجالات في المملكة لرقي الوطن.
النشأة السوية
بعد ذلك يعرض المؤلف لأهم المحطات في حياة الراحل -رحمه الله- بدءاً بمولده حيث لم يمر عام واحد على توحيد المملكة العربية السعودية حتى جاءت ولادة الابن الثالث والعشرين للمؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمهما الله.
ففي تلك الأجواء المليئة بالانتصارات، والمشحونة بالوحدة والمدفوعة بعقيدة دينية صادقة والمكتنزة بالعزم على تطوير البلاد ونبذ الخلافات وتوحيد الصفوف جاءت ولادة نايف في مدينة الطائف عام 1353هـ الموافق (1934م). كريم من كريمين، فوالده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ووالدته الأميرة حصة بنت أحمد بن محمد السديري، الزوجة السادسة من بين زوجات الملك المؤسس، المولودة عام 1318هـ (1900م)، وهي ابنة خال الملك، وقد أنجبت له فهد وسلطان وعبدالرحمن وتركي (الثاني) وسلمان وأحمد وفلوة وشعيع وموضي ولولوة والجوهرة ولطيفة. لقد حظيت الأميرة حصة، والدة الأمير، بمكانة كبيرة ومنزلة عالية عند الملك عبدالعزيز، نتيجة لأخلاقها الرفيعة وأدبها الجم، إذ يروى أن الملك عبدالعزيز كان يقول إنه لم يسمع منها يوماً ما كلمة تسيء إلى أحد، ونتيجة لهذه المكانة، فقد كانت من أحب زوجاته إلى نفسه. وتوفيت في أواخر 1389هـ (1969م).
التحق سمو الأمير نايف بمدرسة القصر، وهي غرفة واسعة الأرجاء، كانت تحتل حيزاً في الطابق العلوي إلى جوار مكاتب الملك عبدالعزيز في بادئ الأمر، ثم انتقلت إلى مقر المدرسة القديمة التي أسست في نهاية قصر الديرة من الغرب بجوار مخازن القصر، وتقع في الدور الأرضي، حيث أنشئت حين أنشئ قصر الديرة عام 1328هـ (1910م)، وقد درس فيها الجيل الأول من أبناء الملك عبدالعزيز وعدد من الأمراء والطلاب، وكان يقوم بالتدريس في تلك المدرسة، محمد بن عقيف، وعبدالرحمن بن عقيف، وناصر بن حمدان، وهم من حفظة القرآن الكريم ومن طلبة العلم الشريف.
ثم أنشئت مدرسة الأمراء التي رعاها الملك عبدالعزيز واهتم بها امتداداً لاهتماماته بالعلم والتعليم، حيث اختار لها عدداً من المدرسين المجيدين بإدارة أحمد العربي، وصالح خزامي، وأخيراً تسلم إدارتها عبدالله خياط، وأحمد علي الكاظمي، وحامد الحابس. أما المدرسة التي أشرنا إليها سلفاً، فهي مدرسة متوسطة من حيث الترتيب بين الأولى والأخيرة، وكان يقوم بالتدريس فيها الأستاذ محمد الحساوي المتقن لفنون التدريس والخط وتعليم الفنون الشائعة آنذاك وهو من أهل الرياض، وكان يطلق عليه لقب (الحساوي) لكثرة زياراته وأسفاره للأحساء، وبلدان الخليج، إلى جانب مدرسي المدرسة الأولى.
الشخصية الجامعة
ولهذا ليس غريباً أن يشب سموه الكريم، يرحمه الله، وهو يتمتع بعبقرية مدهشة في الإدارة السيادية والأمنية والسياسية، فضلاً عن عقلانية تدرك جيداً قيمة الدولة، وأهمية ترسيخ الوحدة الوطنية التي تعد مسلمات ضرورية لتوطيد العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، باتفاق كل رجال السياسة ومنظريها على اختلاف مشاربهم.
أجل.. كان نايف شريكاً أساسياً في صناعة القرار السعودي، وأحد القيادات الرئيسية في بناء الدولة السعودية، وأحد رجالاتها الكبار في حفظ أمنها وضمان استقرارها.. يشهد له بذلك هذا الإرث المشرّف الحافل بالمسؤوليات الجسيمة، والملفات المتعددة الشائكة سياسياً وأمنياً وإعلامياً وإنسانياً أيضاً، التي تعامل معها نايف بحنكة وقدرة ومهارة عالية وذكاء منقطع النظير.
وكان إلى جانب هذا، صاحب فكر عميق، وإدراك واسع، وإلهام شامل بأدق تفاصيل مقومات سلامة الأوطان, فأثناء حياته الحافلة بالبذل والعطاء، عاشت بلادنا أصعب مرحلة في تاريخها المجيد، عندما أطلت آفة الإرهاب الأعمى برأسها، وكان نايف الرجل الأول في الدولة المعني بكبح جماح المتطرفين ووأد شرهم، فقاد المعركة ضدهم بجد وحزم وحسم، ورأفة وسماحة نفس مع المغرر بهم وأفراد أسرهم، وخرج منتصراً بعد عمل شاق، وصبر جميل، وحصّن المجتمع، بإذن الله، دونما حاجة لأحكام طوارئ ومحاكم تفتيش وعسكرة حياة الناس.
أما رعايته لأسر شهداء الواجب من رجال الأمن البواسل الذين قدموا أرواحهم رخيصة دفاعاً عن دينهم، وحماية لوطنهم وأهله من كيد الحاقدين، فكلنا شهود علينا، إذ أسس صندوقاً لرعاية أسرهم لشراء مساكن لهم، وتسديد ديونهم، وتلبية كافة احتياجاتهم، وتخصيص مرتبات لوالديهم وزوجاتهم، ومتابعة تعليم أبنائهم.
من جهة أخرى، كان نايف شديد الاهتمام بأمن ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين، من خلال ترؤسه لجنة الحج العليا، فكنا نراه كل عام معسكراً في المشاعر المقدسة، قريباً من مواقع الحدث، متابعاً حركتهم لحظة بلحظة، حريصاً على راحتهم وأداء مناسكهم في أمن واطمئنان، فوفر الأمن والأمن والراحة بإذن الله، لثلاثة ملايين تقريباً يجتمعون سنوياً في أرض تتسع بالكاد لبضع مئات الآلاف، لكنه فضل الله وتوفيقه، يهبه من يشاء من عباده، ثم همة رجال مؤمنين صادقين، نذروا أنفسهم لخدمة الدين والوطن والأمة.
وامتدت جهود نايف النايف لكل ما فيه مصلحة للوطن وأهله وللأمة، بل والبشرية جمعاء، فأسس مشاريع عديدة لمحاربة البطالة وخدمة المواطنين وتسهيل حياتهم وتحسين دخلهم المادي. واهتم بتوطين الوظائف، ونذر نفسه لتوفير وظيفة لكل عاطل من أبناء الوطن وبناته، وحث رجال القطاع الخاص على إتاحة فرص العمل للسعوديين، وكان دائماً يردد: السعودة ليست شعاراً يردد، ولا مجرد لقاءات تتجدد، وإنما هي مصلحة وطنية تنشد. وخصص (جائزة الأمير نايف للسعودة) لتشجيع القطاع الخاص لتوظيف أبناء الوطن وبناته.
أجل.. كان نايف مجموعة رجال في رجل واحد، فاهتم باحترام الحريات والحقوق الشخصية، والستر وإقالة عثرات الناس، وحسن الظن بهم. فلم يكن يسمح مطلقاً بالاجتهادات الشخصية والتصرفات المرتجلة في حفظ حقوق الناس، بل كان يؤكد على الالتزام التام بالشرع والنظام، ولهذا كان دائماً يحض أمراء المناطق على حفظ الأمن والاستقرار، وكفالة حقوق الأفراد وحرياتهم، وعدم اتخاذ أي إجراء يمس تلك الحقوق أو ينتقص الحريات، إلا في الحدود المقررة شرعاً.
ولم يكن نايف النايف، يرحمه الله، رجل أمن حازما وحاسما وذكيا فحسب، بل كان إنساناً كبيراً، يفيض قلبه بالشفقة والرحمة على الناس.. كل الناس، وقد بدا هذا جلياً في تلمس احتياجاتهم وانخراطه في الحياة الاجتماعية بكل ألوان طيفها، ومساعدة المحتاجين، ورعاية الأيتام والمسنين، والعناية بالمرضى، والاهتمام بتربية النشء، بل امتدت يده الكريمة إلى الإخوة في الدين والعروبة والإنسانية خارج الحدود، على امتداد العالم، دونما تفرقة بسبب جنس أو عقيدة أو لون، فطالما شكل لجاناً للإغاثة وترأسها بنفسه، وأشرف على جهودها مباشرة، لمساعدة المحتاجين في كل أصقاع الأرض، وحفظ كرامة الإنسان، وتحقيق مصالح الأمة، استشعاراً للمسؤولية العظيمة، وسعياً لتحقيق معنى الخلافة في الأرض. ولم تكن أعماله إغاثة تقليدية، تقف جهودها عند توفير الخبز والماء، بل تعدت ذلك لتشمل كل المرافق الاجتماعية من مساكن ومساجد ومدارس ومستشفيات ومراكز طبية، ومختلف الخدمات العامة التي تهم حياة الناس وكشف الضر عنهم.. وأعرف الرجل عن قرب، فلم يكن ثمة شيء أحب إلى نفسه الكريمة من العطاء وإقالة عثرات الناس.
ولا غرو إذن أن يكون أول شخص في العالم يمنحه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) جائزة (المانح المتميز) تقديراً لدعمه المشهود لجهود هذا البرنامج، ولاسيما تلك التي تتعلق بالشعب الفلسطيني، في احتفال مهيب أقيم في نيويورك يوم الجمعة 19-8-1434هـ، الموافق 28-6-2013م. وقد تسلم الجائزة مندوب المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عبدالله يحيى المعلمي من الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون، بحضور المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) الدكتور جوان كلوس، كما منحته جمعية الأطفال المعوقين بالمملكة جائزة الخدمة الإنسانية في دورتها السابعة لعام 1433هـ - 2012م.
60 عاماً في خدمة الوطن
خدم الأمير نايف أمته ووطنه بدون كلل أو ملل خلال أكثر من ستة عقود قضاها في بناء الوطن والمواطن. فبعد أن رأى والده الملك عبدالعزيز فيه الحكمة والمعرفة، عينه وكيلاً لإمارة منطقة الرياض 1371-1372هـ (1951-1952م) ثم أصبح أميراً لمنطقة الرياض 1372-1374هـ (1952-1954م) فنائباً لوزير الداخلية عام 1390هـ (1970م)، فنائباً لوزير الداخلية بمرتبة وزير عام 1394هـ (1974م). فوزير دولة للشؤون الداخلية عام 1394هـ (1975م)، فوزيراً للداخلية عام 1395هـ (1975م)، وأصبح النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء في 30 من ربيع الأول 1430هـ (27 من مارس 2009م). فولياً للعهد، ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وزيراً للداخلية 29-11-1432هـ (27 من أكتوبر 2011م).
وقد رأس الأمير نايف بن عبدالعزيز خلال رحلة عمله الطويلة، العديد من اللجان والمجالس، كما كان عضواً في عدد آخر من المجالس واللجان، أبرزها:
- رئيس مجلس إدارة صندوق التنمية البشرية.
- الرئيس الفخري للجمعية السعودية للإعلام والاتصال.
- الرئيس الفخري للجمعية السعودية الخيرية لرعاية الأسر السعودية في الخارج (أواصر).
- المشرف العام على اللجان والحملات الإغاثية والإنسانية في المملكة العربية السعودية.
- رئيس لجنة النظام الأساسي لنظام الحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق.
- رئيس مجلس القوى العاملة.
- المشرف على هيئة التحقيق والادعاء العام.
- الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب.
- رئيس المجلس الأعلى للإعلام.
- رئيس الهيئة العليا للأمن الصناعي.
- رئيس مجلس إدارة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.
- رئيس مجلس أمراء المناطق.
- رئيس المجلس الأعلى للدفاع المدني.
- رئيس لجنة الحج العليا.
- رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
- نائب رئيس الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها.
- رئيس المجلس الأعلى للسياحة.
تلك لمحة سريعة من حياة حافلة بالبذل والعطاء والسخاء، ومسيرة عامرة بالكفاح والمجاهدة، لقامة شامخة وقائد صادق صابر، وهب حياته كلها لخدمة عقيدته ورفعة وطنه ورفاهية شعبه، ومجد أمته وسلام العالم وأمنه. فتحقق له بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل ما وهبه خالقه من صفات قيادية عديدة، كثيراً مما كان ينشده من طموح من أجل خيرنا وعزتنا.
أجل.. كان نايف، يرحمه الله، قائداً كبيراً وعلامة فارقة في تعزيز دعائم الدولة وترسيخ أمنها وتحقيق أمانها، لما عرف به من حكمة وحنكة، وصبر وسعة صدر، وصدق وإخلاص وسداد رأي وتؤدة وخبرة ويقظة وسرعة بديهة، وحضور ذهن، وحس أمني فريد، ودبلوماسية راقية، وخبرة سياسية عريقة.
ستبقى ذكراه
بعد ذلك يقف مؤلف الكتاب الدكتور بندر بن عبدالله بن تركي عند يوم إعلان وفاة فقيد الأمة الأمير نايف قائلاً: صحيح أن نايفاً غاب عنا جسداً عندما توفاه الله يوم السبت 26-7-1433هـ، الموافق 16-6-2012م في جنيف، حيث كان يقضي إجازة خاصة للعلاج والاستجمام. وتمت الصلاة عليه في الحرم المكي الشريف بعد صلاة مغرب يوم الأحد 27-7-1433هـ، الموافق 17-6-2013م، ثم شيعت جنازته في موكب مهيب إلى مقبرة العدل، حيث ووري الثرى بحضور حشد هائل من السياسيين العرب والمسلمين والأمراء والمسؤولين والمواطنين، كما أدت جموع المصلين بعد صلاة العشاء من اليوم نفسه، الصلاة عليه في جميع مساجد المملكة وجوامعها، امتثالاً لتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وعرفاناً وامتناناً لمآثر الفقيد، وأعلنت بعض الدول الحداد عليه.. أقول: هذا صحيح، فتلك مشيئة الله وسنته في خلقه، فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، غير أن مآثر نايف وإنجازاته، ستبقى محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد، مؤكدة أنه كان صمام أمان ومصدر طمأنينة لنا ولبلادنا، وقيمة وطنية عظيمة.
ويضيف المؤلف: وإذ أحمد الله كثيراً الذي وفقني لإنجاز هذا الجهد المتواضع، توثيقاً لمآثر الفقيد، وتأكيداً لأهمية ما كان يضطلع به من دور محوري في حفظ أمننا، وتذليل كثير من الصعاب في مجتمعنا، ومعالجة العديد من القضايا المهمة التي وقف لها بمسؤولية وحكمة وحنكة، وعلم وخبرة، وصبر منقطع النظير، حتى قيض الله على يديه خيراً وفيراً لنا.. أقول إذ أحمد الله تعالى على هذا العمل المتواضع الذي يعد أقل من الواجب تجاه الراحل الكبير، نايف النايف، أزجي صادق آيات الشكر والتقدير لكل من بكاه ونعاه ورثاه، طيب الله ثراه، نثراً أو شعراً، عرفاناً وامتناناً لما بذله من جهد صادق وتضحية جسيمة من أجل خيرنا وأمن بلادنا ورخاء أمتينا العربية والإسلامية، والإسهام في تحقيق أمن العالم وسلامه ودفع الضر عنه.. فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وأجزل له المثوبة.. اللهم آمين.
في رثاء الراحل
ويضم الكتاب بين طياته عشرات المقالات التي نشرت في رثاء الراحل رحمه الله وأبرز ما قيل عن شخصيته الفذة ومن ذلك ما قاله قائد طائرة الرحلة الأخيرة الكابتن إبراهيم الرشيدي حيث يقول: تشرفت بالتحليق مع الراحل لنحو 30 عاماً، كنت أعرض عليه حالات إنسانية نتقدم بالشفاعة لهم لدى الأمير نايف، وأتذكر أنه في إحدى الرحلات وقع ستة عشر أمر علاج على حسابه الخاص، ففي كل رحلة يتكفل بعلاج العشرات من الحالات الإنسانية التي تعرض عليه، ولم أذكر في يوم من الأيام أنه أحالها للعلاج على حساب الحكومة.
لدينا زميل عندما علم الأمير نايف بحالة أبنائه المقعدين، تكفل بعلاجهم حتى اليوم، حيث تقدم لهم الرعاية الصحية على حسابه الخاص، كان سموه يرحمه الله، يقابلنا بابتسامته المعهودة، ويتحدث إلينا ويسأل عن أحوالنا، ويتميز الراحل بحبه لمعرفة أحوال من حوله، يحب أن يسمع لهم، وطيلة الفترة التي قضيتها معه لم أره عابس الوجه، كنا نتحرج عندما نقدم له طلب مساعدة أي شخص، لكن كان يقول: أنتم تقومون بخدمة جليلة عندما تساعدون هؤلاء الناس وتعرضونهم عليّ، وإن شاء الله لكم الأجر والثواب، وكانت جميع رحلات الأمير نايف تتميز بالمتعة والفرح والسرور، كان يمازح طاقم الطائرة عند صعوده وكذلك عند الهبوط.
لقد رافقت الفقيد لسنوات طويلة، حيث حلقت معه خلال 27 عاماً، متنقلاً داخل المملكة وخارجها، قطعنا مع الراحل عشرات الآلاف من الأميال، ولكل رحلة طابع خاص، ففيها من الفرح والسرور ما فيها، بخلاف الرحلة الأخيرة التي كانت حزينة، وخيم عليها طابع الهدوء، بينما كانت الرحلات السابقة للراحل تتحول إلى نقاشات مع من حوله.
وفي الرحلة الأخيرة غادرنا المملكة إلى سويسرا، وبينما كنت أنا وطاقم الطائرة في انتظار أمر للقيام برحلة تجريبية للطائرة، استقبلت توجيهاً بتأجيل موعد التجربة، وأيقنت في حينها أن هناك أمراً ما، وبالفعل تابعت الاتصال مع أحد الإخوة المقربين من الراحل، وأبلغني بالخبر المفجع الذي نزل عليّ كصاعقة، نعم، فكان الراحل قبل وفاته يستقبل الأمراء والوزراء والسفراء، وكعادته بشوش الوجه، لكن أقدار الله، ولا اعتراض عليها.
اعتدنا من الراحل أن يقف عند سلم الطائرة، ويبادرنا بالسؤال عن أحوالنا، ويقدم يد العون والمساعدة لأي فرد من طاقم الطائرة، وفي كل رحلة يقف الفقيد عند بوابة الطائرة يصافحني والطاقم فرداً فرداً، ويسألنا عن أحوالنا، وكان يبادر بالسؤال عنا قبل أن نسأله عن صحته، ولا يهدأ له بال حتى يطمئن علينا واحداً تلو الآخر طوال السنوات التي عملت فيها قائداً لطائرة الأمير نايف، لم تكن الابتسامة تفارق محياه، فقد كان الفقيد الكبير ينثر ابتسامته على كل من حوله، أتذكر الرحلات الجميلة مع هذا الأمير الشهم، وله في نفسي ذكريات، لكن الرحلة الأخيرة التي حملت الجثمان الطاهر من سويسرا إلى جدة، ستبقى علامة فارقة في حياتي، وهي من أتعب الرحلات التي مرت عليّ، حيث الحزن والدمع على فراق نايف، تفاصيل أربع ساعات وخمس وأربعين دقيقة، هي مدة الرحلة التي أقلعت بجثمان الأمير نايف عند الساعة التاسعة من سويسرا، ووصلت عند الساعة الثانية والربع، علتها علامة من الحزن والدموع الكثيفة، حيث حملت الطائرة الجثمان وسط موجة صمت من كانوا على متنها، صمت يلفه حزن أعمق على فجيعة رحيل نايف.
لقدكانت رحلة الوداع أقسى أيامي، كيف لا وهي تقل ركناً من أركان الدولة الحديثة، فقد كان يرحمه الله شخصية استثنائية في تعامله مع من حوله، ولهذا عندما وصل جثمان الراحل إلى المطار، شعرت بفداحة الفقد في عيون الجميع، رأيت حجم الفجيعة في نفس أبنائه الأمراء، سعود ونواف وفهد، وأبناء الأمير سعود بن نايف، وكل من كان هناك قرب الراحل الجليل، وأحسست أن فيضاناً من الحزن والأسى يغمر الجميع، حيث كان موت الراحل مثل الفاجعة للجميع.
عندما أقلعت من المطار أحسست حجم الفراق، فكانت رحلة العودة الحزينة مختلفة تماماً عن كل رحلات الفقيد الغالي، حيث فقدنا الابتسامة، فقدنا رجل دولة من الطراز الأول، طيلة فترة الرحلة، كنت في حزن عميق، وأصبر نفسي بالدعاء للفقيد، فليس أمام المرء وهو يودع كبيراً بقامة نايف، إلا أن يتوجه بكل جوارحه وأحاسيسه ومشاعره إلى الله أن يسكن الفقيد فسيح جناته. فحينما اقتربت الطائرة من الهبوط في مطار جدة، ازدادت كثافة الحزن والأسى، وكان مشهداً لا ينسى، عندما شاهدنا ذلك المشهد المهيب الذي ينتظر الجثمان، ويظل آخر لقاء جمعني بالأمير الراحل، أثراً باقياً في قلبي ووجداني في آخر رحلة قبل رحيله بنحو 23 يوماً، فكان كعادته بشوش الوجه وكأنه يلقي علينا نظرة الوداع الأخيرة.
لقد أمضيت قرابة 30 عاماً في الطيران الملكي وأتذكر العديد من المواقف المؤثرة والمواقف الإنسانية للراحل التي لا يتسع المجال لذكرها لكن يوم الرحلة الأخيرة، كان أصعب يوم في حياتي، إذ رأيت الدموع في عيون أطقم الضيافة البالغ عددهم 24 مضيفاً، يعلو وجوههم الحزن على فقد نايف بن عبدالعزيز الذي كان يقسم وقت رحلته بين هموم الوطن عندما يطلع على بعض المعاملات التي ترافقه، وبين قراءة القرآن والسنة النبوية، فقد عرفناه بكرم نفسه، وطيب أخلاقه، وسخاء يده، فرحم الله نايف، وأسكنه فسيح جناته.
رثاء الراحل شعراً
وفي الباب الثاني من الكتاب الذي امتد إلى آخره بصفحاته الـ447 فقد خصصه المؤلف لتوثيق أبرز ما قاله الشعراء الشعبيون وشعراء الفصيح عن الراحل رحمه الله في أكثر من خمسين قصيدة جسدت ألم الفقد ووداع المحبين.
ومن تلك القصائد ما جاء في آخر الكتاب تحت عنوان (أحسن الله عزاكم» للشاعر خالد بن محمد القحطاني والتي يقول فيها:
أحسن الله عزاكم يا طوال العمار
وأحسن الله عزاء الإسلام والمسلمين
والله إني حزين ولا لاحزاني فرار
في فقيد جمع ثنتين دنيا ودين
الحليم الحكيم اللي لدينه يغار
الكريم المحنك والقوي الأمين
السياسة لقيناه بنص القرار
كم وكم سطر التاريخ طوال السنين
كل ما كبرت القالات عنده صغار
حكمته تحسم الميقاف بهون هوين
إن وقف للدعاوي قام يقدح شرار
يرشد الغاوين ويكعم العايلين
كيف نستوعب افراقه وما صار صار
يا الله إنك تزودنا صبر يا معين
أشهد إن فقد نايف شب في الجوف نار
جعلنا مسلمين وعلى القدر صابرين
والعوض بعد نايف في طيور الحرار
يا سعود ومحمد جعلكم سالمين
يا حماة الوطن والدين ليل ونهار
يا سلايل عزيز القوم ذرب اليمين