سهام القحطاني
لا شك أن مفهوم التخطيط سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات أصبح تقنية فكرية أكثر من كونه مهارة فكرية، وهذا لا يعني أن المهارة غير ضرورية في البناء التكويني والإجرائي للتخطيط، إنما مستوى الضرورة هنا مرتبط بالتراتبية والأولويات، فالمهارة الفكرية بمفردها مهما بلغت من عبقرية لا يمكن أن تحقق تكاملية التخطيط لإنجاز مستديم النجاح، وتلك التكاملية هي التي تُخرج الاستشراف من عتبة التمني «يا ليت» إلى واقعية الإجراء والتنفيذ «كيف».
إن علم التخطيط وفروعه أصبح اليوم من أعظم وأهم العلوم في العالم.
ويُخطئ من يظن أن علم التخطيط «مجرد أفكار ليست كالأفكار» فهو علم «تحويل الأحلام إلى واقع» و»الأفكار المستحيلة إلى أفكار ممكنة» و»الأفعال المستعصيّة إلى إنجازات مرئية».
ولا تكمن أهمية علم التخطيط في هذا الجانب «صناعة تنفيذ الإنجاز» بل تمتد أهميته إلى «ضبط استدامة الإنجاز
والمحافظة عليه».
إن التخطيط الجيد هو الذي يقوم على «توصيف وتشخيص وتحليل الواقع» هذه العملية المنظمة المقصودة بدورها تسلط الضوء على عوامل ضعف الواقع ومكامن قوته ومظاهرها والفرص التي يمكن استثمارها لمصالحة تطوير الواقع وتجويده، وتحديد التحديات التي قد تعيق عملية التطوير تلك.
ولا يُمكن أن تحقق أي عملية تخطيط دورها التطويري والتجويدي والنهضوي بلا «رؤية» تتأسس في ضوئها عملية التخطيط وتقودها.
إن العشوائية المنظمة «التخطيط المجزئ» لا تصنع مستقبلاً لأي أحد، فالمستقبل صناعة تخطيطية متكاملة واضحة الرؤى، معادلة عقلية ليست قائمة على ما سأزرعه سوف أحصده كما تعلّمنا، بل إضافة إلى أولية هذه المعادلة كيف سأزرع سوف أحصد؛ القيمة مقابل القيمة، والهدف مقابل الغاية، ولعل هذا أول درس يعلّمنا إياه «مشروع رؤية السعودية 2030» إن قيمة المحصول يرتبط بقيمة كيفية زراعته، إذن نحن هنا أمام تحولات فكرية أحسبها التحدي الأول القادم، هل نستطيع كمجتمع الإيمان بضرورة هذا التحول وتنفيذه؛ إن «الأفكار العظيمة ينتجها الرجال العظماء» لكن «الإنجازات العظيمة يصنعها الناس».
لا شك أن مشروع «رؤية السعودية 2030» رسم لنا بالإضافة إلى قيمته الفكرية والمعنوية أبعاداً أخرى غير منظورة، من أهمها أنه سينتج «طريقة جديدة للتفكير» لم يتعود عليها الفكر الاجتماعي» أو يجب أن ينتج لأني كما قلت سابقاً «الإنجازات العظيمة يصنعها الناس»، وهذه قيمة كبرى أحسبها، فالتفكير الصحيح للتخطيط الناجح في الحياة وتقديم الإنجازات النهضوية لا تُراعى فقط على مستوى مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة، إنما يجب أن تكون منهجاً للحياة للأفراد، لأن الفرد إذا آمن بقيمة ثقافة التخطيط في حياته الخاصة واتخذها منهجاً أصبح قادراً على التفاعل مع هذه الثقافة في مؤسسته ومهنته وهو ما سوف يساهم في سرعة حركة الإنجاز، فالمنفّذ الأعمى مهما كان مخلصاً لا يُمكن أن يكون جزءاً من هذه الرؤية النهضوية أو بديلاً للمنفّذ البصير، ولذلك لا نستغرب عندما ركّزت رؤية السعودية 2030 على أهمية تأهيل المنفِذ لكونه عنصراً مساهماً بالفعالية في تطبيق هذه الرؤية
وتطويرها، بل هو من عناصر القوة في هذه الرؤية أو كما وصفته «شعب طموح معظمه من الشباب» وهذه الوصف الكمي والنوعي تجعل من الإنسان السعودي «ثروة بشرية» كما ورد في هذه الرؤية.
إن الرهان على «الإنسان» في إحداث قوة التغير والتغيير هو الرهان المضمون دوماً، لكن ضمان النجاح يحتاج إلى ما أسميه «بمثلث بناء الإنسان»؛ تعليم وثقافة، تأهيل وتدريب، سوق عمل متنوع، وحتى نتمكّن من بناء هذا المثلث نحن في حاجة إلى تغير وتغيير رؤية المؤسسات التعليمية والصحية والخدماتية والثقافية وإعادة تخطيط سوق العمل في السعودية التي يجب أن تبنى في ضوء عدالة وتكافؤ الفرص، حتى - كما تقول الرؤية «نبني وطناً أكثر ازدهاراً، يجد فيه كل مواطن ما يتمناه، فمستقبل وطننا الذي نبنيه معاً، لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم بالتعليم والتأهيل والفرص التي تُتاح للجميع والخدمات المتطورة في التوظيف والرعاية الصحية والسكن والترفيه».
إن رؤية السعودية 2030 تُراهن على بناء الإنسان كونه من عناصر قوة الواقع، وهو قوة استثمارية كما هو قوة عطاء، ولذا حظي تأهيله بنصيب كبير في هذه الرؤية بدءاً من التعليم مروراً بالتأهيل والتثقيف وبناء المتاحف
والمكتبات وصولاً إلى الترفيه، الترفيه كمؤشر لجودة نهضة الفرد.
ولم تقتصر فكرة بناء الإنسان السعودي على ذاته فقط أو «أناته» إنما امتدّت فكرة بناء الإنسان إلى «علاقته بالآخر» وهذه تحول بلا شك له دلالته المعبّرة من حيث ضرورة انفتاح السعودي على الآخر، وبناء شراكات ثقافية
واقتصادية وإنسانية، انفتاح يُذوّب نية التوجس الذي كانت تبني جسراً بين السعودي والآخر، انفتاحاً ينطلق من مستلزمات العولمة والكوننة التي ألغت حدود المكان والفكر، انفتاحاً تنطلق من «منهج الوسطية» التي أُسس دستور الدولة السعودية في ضوئها وصنعت بموجبها هويته الثقافية والفكرية، المنهجية التي تتبنى السلام والرحمة والمودة بين المختلفين، وأن القيمة يحددها الأثر لا أصل العقيدة، منهجية أكدت عليها هذه الرؤية «رؤيتنا لبلادنا نريدها قوية مزدهرة تتسع للجميع، دستورها الإسلام و منهجها الوسطية، تتقبل الآخر، سنرحب بالكفاءات في كل مكان،
وسيلقى كل احترام من جاء ليشاركنا البناء والنجاح».
وهذا أول قيمة نتعلمها من هذه الرؤية «الإنسان القوة الاستثمارية الأولى لنهضة الدولة».