اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن القيادة الواعية لا مندوحة أمامها من أن يكون لها رؤية تتحرك داخل إطارها العام، وتسير على هديها نحو مستقبلها المنشود، حيث إنه لا غنى لأية منظومة قيادية ناجحة عن هذه الرؤية سواء على مستوى المنظومة القيادية الفردية لقائد ما أو على مستوى المنظومة القيادية الجماعية للدولة، وفي غياب هذه الرؤية لن يستقيم أمر القيادة ولن يكتب لها النجاح بسبب فقدان بوصلتها التي تحفظ اتجاهاتها وتضبط تحركاتها.
ومهما كان مصدر الرؤية والماهية التي تميزها عن غيرها، والوسائل المستخدمة لتنفيذها، فإنها لا تنفك عن وجود مكونات تتحكم في عملية تحويلها وصيرورتها إلى واقع عبر الأرضية التي تنطلق منها الرؤية والإطار المنتج للأهداف والحدود الضابطة لها، ثم التخطيط الذي ينبثق منها، ويتبلور بموجبه الاستعداد للأحداث المستقبلية والأهداف المرتبطة بها، وتوافق ذلك مع تلك الأهداف الواقعية ببعديها الزماني والمكاني، مع الأخذ في الحسبان أن التخطيط الإستراتيجي لا يتولد إلا من رؤية إستراتيجية، بالإضافة إلى أن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها تتجاوز الأهداف المرحلية إلى أهداف نهائية، علاوة على أن الفضاء الذي يتحرك فيه يتعدى محيطه الداخلي إلى ما هو أبعد وأشمل.
وإذا كان التخطيط يستند إلى رؤية المُخطط ويسبق إعداد القرارات التي هي وظيفة أساسية لصحاب الرؤية فإن الخطط تعتبر من مسؤولية الجهات الأدني، كما أنها تمثل التفاصيل التي يجري وضعها لبلوغ ما تم التخطيط له، وهي ذات طبيعة متغيرة، في حين يتسم التخطيط والقرارات المستندة إليه بالثبات. وبمجرد أن تتشكل الرؤية في ذهن مصدرها، ويقتنع بها يبدأ في تسويقها إلى الآخرين بدءاً من الحلقة الأقرب إليه وانتهاء بعامة الناس بحيث يتأكد من صداها والأثر الذي تولده لدى الآخرين، ومدى قبولها، ومهما كان صاحب الرؤية مقتنعاً بها وعلى ثقة من جدواها فإنه يستمد القوة من قبول الناس لها من خلال ما يكون لها من أثر وتأثير، وتوصيل الرؤية إلى المجتمع ينبغى أن يكون بالإقناع لأن المهمة بالغة الصعوبة، وبدون الاقتناع بها يصعب تنفيذها والوصول إلى أهدافها.
والرؤية تختلف باختلاف مصدرها ونوعية فكرتها والغاية التي تتمحور حولها والأثر والتأثير المنتظر أن يترتب عليها، وهناك بعض القادة الذين ذاع صيتهم وأصبحوا ملء السمع والبصر بفضل الرؤى التي تبنوها وخلدت ذكرهم على مرِّ العصور، والملك عبد العزيز - رحمه الله - أحد هؤلاء القادة من خلال رؤيته التي أطّرها بوجوب توحيد الجزيرة العربية، وانطلق تخطيطه من هذا الإطار موحداً الإجزاء المتناثرة والقبائل المتناحرة تحت قيادة واحدة ضمن مملكة لها دورها وحضورها إقليمياً وعالمياً، ونجاح رؤيته يعود إلى مشروعية الوسائل التي استخدمها واستنادها إلى فضائل دينية وأخلاقية واجتماعية، تلك الفضائل التي اعتنقها جيل الأجداد والآباء الذين عاصروا الملك عبد العزيز، وأبلوا معه بلاءً حسناً في سبيل تجسيد هذه الفضائل على أرض الواقع والوصول بالرؤية إلى نهايتها السديدة.
ومنذ أن آتت تلك الرؤية أُكلها، وطرحت ثمارها بالشكل الذي أدى إلى قيام كيان الدولة وبناء مؤسساتها، والمملكة تواصل مسيرتها ومراحل تطورها بدءً من مرحلتي التوحيد والتأسيس ووصولاً إلى مراحل الاستقرار والازدهار والاستمرار، ورغم اعتماد المملكة على النفط بعد اكتشافه كمصدر أساسي للتنمية والدخل القومي، فإن ذلك لم يمنعها من وضع خطط خمسية للتنمية ذات أهداف تركز على الناتج المحلي والإنفاق المرتبط به، دون أن تنجح هذه الخطط في تحرير الاقتصاد من الاعتماد على النفط أو تصل إلى مستوى الرؤية، وما ينتج عنها من تخطيط طويل المدى يمكن أن يرسم مساراً واقعياً أقل اعتماداً على أرقام معلومة في إطار الناتج المحلي.
والرؤية التي بين أيدينا لها ماهية خاصة وطابع أكثر خصوصية لأهمية موضوعها وموافقة مجلس الوزراء عليها والحيثيات التي تضمنها الحديث الذي أدلى به عنها ولي ولي العهد في مؤتمره الصحفي، مطلقاً عليها اسم (رؤية المملكة 2030)، باعتباره عرابها وإليه يعود الفضل في فتح بابها، وهي رؤية مستقبلية لما يتعين أن تكون عليه المملكة في المستقبل، منطلقة مما تمتلكه من قوة استثمارية وقدرة تنموية، يضاف إليها العمق العربي والظهير الإسلامي، وكذلك الموقع الجغرافي الإستراتيجي مع الاعتماد على حيوية المجتمع وازدهار الاقتصاد وتطلعات الوطن، بوصف هذه الرؤية تشكل عنواناً شاملاً يحتوي في داخله على عناوين عدة تبدأ من إطار الرؤية وحدودها، والغايات المنشودة منها، والآمال المعقودة عليها، علاوة على الأهداف والواجبات وكيفية الإنجاز، وما يتخلل هذه العناصر من التسويق للرؤية عبر التواصل والاتصال. وبما لا يتعارض مع أهمية المباشرة بتنفيذ الرؤية فإن المرحلية في تنفيذها والتعامل بصورة تدريجية مع الالتزامات والأهداف والبرامج التي تؤدي إلى تفعيل الرؤية ونجاحها، تفرض مراعاة أسبقية الأنشطة وأهمية الوسائل من جهة، وتداخل الأبعاد الزمانية والمكانية والإنسانية من جهة ثانية، وكذلك التأكيد على الانطلاق من مرتكزات الرؤية ومحاورها من جهة ثالثة، مع الأخذ في الاعتبار الموازنة حيناً والمزواجة أحياناً بين ذلك وبين الأولويات الوطنية القائمة التي توليها القيادة جل اهتمامها، وتشكل الشغل الشاغل للشعب وعلى رأسها المنغصات الداخلية والتهديدات الخارجية وبالتحديد الأمنية والسياسية ذات الصبغة الحرجة والسمة المصيرية التي لا تقبل التأخير ولا تحتمل المساومة والفرص الضائعة فيها لا تعوض.
والرؤية بقدر ما هي واقعية وقابلة للتنفيذ بقدر ما هي محاطة بسياج من الصعوبات، فالانتقال من رؤية وطنية إلى أخرى يتحرر بموجبها الاقتصاد من الاعتماد على النفط عن طريق تطويع البدائل الموجودة وخلق بدائل جديدة يحتاج إلى إرادة قوية لديها القدرة على إنتاج قوة مفقودة من قوة موجودة، والصبر والوقت كفيلان بتحقيق ذلك، متى ما صح العزم على مستوى القمة والقاعدة على توظيف القدرات والإمكانات المتوفرة نحو هذه الغاية، حيث إن أصحاب النوايا الصادقة والهمم العالية يصنعون من الأحلام واقعاً، وتصعد بهم عزائمهم وطموحاتهم إلى ما يشبه المستحيل، فكيف بتلك المطالب والأهداف التي يتوقف بلوغها على درجة عالية من الإصرار والتصميم في إطار من حسن التصرف وجودة التدبير بما يضمن الاستفادة من الثروات الموجودة والبدائل المتاحة التي إذا ما تم المسك بزمامها والسيطرة على نظامها وأحسن استخدامها أصبحت الطريق ممهدة إلى النجاح، كما أن روح التحدي واقتران الهم بالعقل يجعلان من المعوقات حوافزاً إلى محاربة الفشل وبلوغ الأهداف مهما كانت التكاليف باهظة والوسائل متناقضة.
ومن هذا المنطلق أكدت الرؤية على تنمية الاقتصاد وتطوير مصادر الدخل القومي وموارده المنظورة وغير المنظورة مع تقليل الاعتماد على عائدات النفط عبر الاستفادة من البدائل الموجودة وتوفير البدائل المفقودة بغية الحد من البطالة ودعم الشرائح الاجتماعية الأقل دخلاً، والاستغناء عن دعم بعض المواد المدعومة، علاوة على توسيع جهود الخصخصة وتعزيز الإنتاج العسكري الصناعي وكل ما من شأنه توطين الصناعة والمنتجات الضرورية بدلاً من استيرادها، ودمج بعض أصول شركة النفط السعودية وتكريس الجهود نحو إيجاد أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم.
وينبغي ألا يغرب عن البال أن أقوى حافز إلى تحقيق النجاح هو النجاح نفسه، وأن التخطيط الناجح يحتاج إلى خطط ناجحة، كما أن الأخطاء التي تحصل في بداية أية مرحلة من مراحل إنجاز أي مشروع ما لابد أن تظهر آثارها السلبية في النهاية، علاوة على أن الأمور لا يحكم عليها من بدايتها الوردية بل من خواتيمها الناجحة، وهذا يعني أن الأخطاء التي تحصل أثناء التنفيذ يصعب التحرر منها بحيث يتضح تأثيرها فيما بعد بشكل يقلل من قيمة النجاح، وإذا كان هذا هو حال الأخطاء الآنية فماذا عن أخطاء الماضي والتراكمات المستعصية على الحل من هذه الأخطاء.