عبد الاله بن سعود السعدون
لم يهدأ الشارع السياسي المعارض في العاصمة أنقره احتجاجاً على تصريح رئيس البرلمان إسماعيل كهرمان لمطالبته بدستور ديني وطي العهد العلماني، وجاءت محاولة الرئيس أردوغان بتصريح مسكّن بقوله: (إن رئيس البرلمان كهرمان كان بتصريحه هذا لا يمثَّل حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه، بل يمثّل رأيه الشخصي، وأؤكد أن تركيا بلد علماني يغلب المسلمون على سكانه، ولا بد أن تقف الدولة على مسافة متساوية من كل الأديان وهذه هي العلمانية).. وفجَّر الموقف السياسي ثانيةً تصريح رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم البروفيسور أحمد داوود أوغلو في مؤتمره الصحفي هذا الأسبوع بإعلانه عن (نيته التخلي عن رئاسة الوزراء وزعامة الحزب ولن يرشح نفسه للرئاسة خلال المؤتمر الاستثنائي للحزب والذي تمت الدعوة له في 22 مايو الحالي)، وكان لقاءً صحافياً مؤثراً تعاطف مجمل الصحفيين مع داوود أوغلو لطريقته السلمية العالية في ترك السلطة وبقائه على الود والوفاء للصديق أردوغان، والمعروف عن البروفسور داوود أوغلو دماثة الخلق، وهو شخصية أكاديمية ودبلوماسية هادئة وحاول التمتع بقدر كبير من الاستقلالية السياسية في معالجة الأحداث الصعاب التي مرت بها تركيا من الداخل والخارج وشعر بأنه مقيد، ولم يعط الفرصة الكاملة لقيادة البلاد.. وكثيراً ما يصطدم بقرارات القصر الرئاسي في الأحداث السياسية المتقاطعة مع قراراته وآخرها موافقته على اتفاقية التعويضات عن المهجّرين مع الاتحاد الأوروبي، وتمتع المواطنون الأتراك بالتأشيرة الأوربية المشتركة (الشنكل) مع التزام تركيا بالتخفيف من قوانين محاربة المنظمات الكردية المسلحة والتي صنّفت بالإرهاب والاتجاه نحو الحلول السلمية واحترام حقوق الإنسان، إلا أن الناطق باسم القصر الرئاسي صرح برفض هذا الاتفاق وأن تركيا لن تتنازل عن قوانين محاربة الإرهاب حفاظاً على أمنها القومي.
وعلَّق سياسيون ألمان على هذه التصريحات المتناقضة بأن ترك داوود أوغلو لمنصبه في رئاسة الوزارة والحزب سيكون له آثار سلبية داخل تركيا نفسها، وكذلك ستؤثر على العلاقات الأوربية - التركية، فقد كان الرئيس داوود أوغلو مفاوضاً ورجل دولة يوثق به ومن أنصار انفتاح تركيا على أوروبا، وعلق الرئيس أردوغان على قرار الرئيس داوود أوغلو بالرحيل عن المنصب بأن ذلك دليل على احتياج البلاد لنظام رئاسي بالكامل، وسنقوم بطرحه للاستفتاء الشعبي قريباً، وأيضا لا بد من دستور جديد، وهذه التغيرات الأساسية في مؤسسات الدولة من متطلبات المرحلة القادمة لبناء جديد لشكل السلطات الثلاث التي تحكم الدولة التركية الجديدة، وليست رغبة وحسب الأجندة الخاصة لأردوغان!! ومع بداية شهر مايو الحالي سربت مدونة إعلامية ساخرة نشرت على موقع بيليكان بريف الإلكتروني، حيث تعرضت للنزاع بين الرئيسين وحملت في طياتها بذور الفرقة والفتنة بينهما، وقد جاء بها: إن القائد (أردوغان) قد أنعم قبل سنتين على داوود أوغلو بمنصب رئاسة الوزراء وزعامة الحزب
واشتراطه عليه عدم الاعتماد على التعاون الكامل مع الغرب وتقديم تنازلات في الشأن الداخلي ومحاربة التيارات المعارضة للحزب والرئاسة وأيضاً تسهيل عملية الانتقال للنظام الرئاسي وتهيئة الرأي العام التركي لتقبل ذلك والتصويت بنعم لإقراره، ولكن داوود أوغلو تمسك بالسلطة ولم يهتم بأي من هذين الهدفين وعمل على ترسيخ نفوذه بين القواعد في الأقاليم لحزب العدالة والتنمية مما حدا باللجنة المركزية للحزب الحاكم أن تصدر قراراً بالإجماع بسحب صلاحيات رئيس الحزب داوود أوغلو من تعيين مسئولي الأقاليم الحزبية في خطوة تمثّل تقليصاً لصلاحياته على قواعد الحزب الحاكم، ودافع داوود أوغلو عن موقفه وكذب الادعاءات التي جاءت بالمدونة الإلكترونية المجهول كاتبها بخطابه أمام كتلة الحزب البرلمانية بقوله: (لا أخشى سوى الله بأن ما يُكتب ويُقال عني من افتراء مدسوس لشق قواعد الحزب وأضعافه، وأنا شخصياً مستعد للتضحية بالمنصب والتخلي عنه إن كان في ذلك مصلحة الدولة والحزب، وأضحي بنفسي في سبيل بقاء حزب العدالة والتنمية متماسكاً في خدمة الشعب التركي).. ويدور همس في الأوساط العلمانية المعارضة للرئيس أردوغان بأن الصحفي الذي سرَّب هذه المدونة الإلكترونية مقرّب (جداً) من القصر الرئاسي...!
وشهد التاريخ السياسي التركي القريب تقاطعات بين صلاحيات الرئاستين، إلا أن توحد الحزب حول رموزه وتمسكهم بالنظام الداخلي للحزب حال دون ظهور انقسامات عميقة بين صفوف قواعده وصراعات حول السلطة وأقرب مثال لهذا التداخل في القرارات بين الرئاستين في العهود السابقة ما بدا واضحاً في رئاسة الرئيس الراحل تورجوت أوزال عام 1989م.
وسبق أن علَّق رئيس البرلمان الحالي كهرمان على هذا التداخل في الصلاحيات بين الرئاستين بوصفه ذلك (السلطة التنفيذية مثل السيارة التي يقودها سائقان ولا يمكن أن تتحرك إلى الأمام أو الخلف من دون اصطدام وبعدها الحادث لا سمح الله)، وكانت الشرارة الأولى للفراق بين الزعيمين التركيين فشل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015م، وأرجعت قواعد الحزب سبب انخفاض المقاعد البرلمانية التي حصل عليها الحزب لضعف الحملة الانتخابية التي قادها الرئيس أحمد داوود أوغلو.. وعلَّق المحلل التركي محمد زاهد جول بأن ما يحصل في تركيا الآن هو مخاض ولادة نظام رئاسي وسياسي جديد، والرئيس أردوغان أول رئيس تركي فاز باختيار مباشر من الشعب، وبات الآن ضرورة العمل على بدأ مرحلة جديدة يتحمّل فيها الرئيس المنتخب مسئولياته التاريخية في تشكيل النظام الجديد... وتشير التسريبات الصحفية من وسط كواليس اجتماعات الحزب الحاكم الذي تحوّل لخلية نحل عاملة عن ترشيح أسماء من الصف الأول في الحزب لتولي رئاسته، وتولي أيضاً منصب رئاسة الوزراء ويبرز اسم المهندس الشاب براءة البيرق وزير الطاقة وزوج السيدة إسراء الابنة الكبرى للرئيس أردوغان، والذي يمثِّل حصان الرهان المتقدم لهذا المنصب السيادي، والشخصية الثانية والقريبة أيضاً من القصر الرئاسي وزير النقل (بن علي يلدرم) وتداول اسم المحامي بكر بوز داغ وزير العدل كمنافس على رئاسة الحزب.المؤتمر الاستثنائي الذي سيُعقد في أنقرة في نهاية شهر مايو الجاري سيشهد بزوغ أسماء جديدة في القيادة الجماعية الشابة لحزب العدالة والتنمية والمنسجمة تماماً مع الرؤى التي يتبناها زعيم تركيا الجديدة ورئيسها المنتخب من الشعب مباشرةً رجب طيب أردوغان والهادفة لتحقيق الأمن والاستقرار والرفاء للشعب التركي المسلم الشقيق وصمام أمان وتوازن قوى وسلام لمنطقتنا الإقليمية بأسرها.