د. محمد عبدالله العوين
حين رأى علي بن أبي طالب الرجل الخارجي الذي وصفه الرسول «صلى الله عليه وسلم» بين القتلى بكى وقال: صدق رسول الله صدق رسول، وتأكَّد له أنه على حق في قتلهم وكف شرهم عن الأمة؛ وبخاصة أنه قد روى أيضًا حديث الخوارج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم حقيقة العلم صفاتهم وطريقة تفكيرهم ودوافعهم كما سمعها من رسول الله؛ حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، لا يفقهون الدين ولا يدركون غاياته السامية، ويأخذون بظاهر النص دون استبطان معانيه ويتعبدون دون إدراك ما تقتضيه العبادة الحقة من التورع عن إثارة الانقسام والفرقة والنزاع في الأمة والتأثم من سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وسلب أموالهم تحت حجة «التكفير» المزعومة، وحين تألم علي رضي الله عنه من حادثة قتل الصحابي الجليل «عبدالله بن خباب بن الأرت» وبقر بطن جاريته التي كانت على وشك وضع جنينها وذبح من معه من النساء؛ فسأل علي عمن ارتكب تلك الجريمة الشنعاء من الخوارج وطالبهم بتسليم قتلته؛ فقالوا: كلنا قتله، وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم!
والعجيب في حادثة مقتل عبدالله بن خباب المؤلمة وجاريته ومن معه من النسوة أن تمرة سقطت من أعلى نخلة كانوا يرتكبون جريمتهم تحتها؛ فأكلها أحدهم، فاحتج عليه أصحابه بأن أكلها فيه تعد على صاحب النخلة وطلب منه أن يذهب لاسترضائه! وفي الحادثة نفسها وقع سيف أحد الخوارج على خنزير لعابر مر بجانبهم فأصابه وسال دمه؛ فراحوا يترضون صاحب الخنزير لما أصابه!
وتذكرنا هاتان الحادثتان بموقف لأحد خوارج هذا العصر الذين أحرقوا أحد رجال الأمن بعد قتله واختلفوا فيمن يصور الحادثة الإجرامية لبثها على وسائط التواصل؛ لأنهم لا يريدون أن يرتكبوا إثمًا باقتراف جريمة التصوير؛ لاعتقادهم بحرمته!
وهكذا هم الخوارج في القديم والحديث يتعففون عن الصغائر ويرتكبون الكبائر، لا يرعون في مؤمن إلا ولا ذمة، توطنت نفوسهم على الخروج على إجماع الناس، فما أن يستقيم أمر المسلمين على أمر إلا شقوا إجماعهم؛ فأولئك المحكمة طلبوا التحكيم بادئ الأمر حين رفعت المصاحف، ثم حين تم الاتفاق وفي طريق العودة إلى الكوفة انشقوا وقالوا لا حكم إلا لله، وتتبين غايتهم اللئيمة في تفريق جمع كلمة الأمة وإثارة الفوضى والاضطراب، وقد أبان زعيمهم عبدالله بن وهب الراسبي هدفه بوضوح حين قال: «هيا بنا إلى إحدى كور العراق نعتزل فيها بديننا» وتعد حركة الخوارج المحكمة أول انفصال جماعي تكفيري في تاريخ المسلمين وأول نبتة لبذرة التكفير السامة، فقد رأت المحكمة أن كفر الراعي إذا لم بحكم بما أنول الله حسب زعمهم يستوجب كفر الرعية، فاستباحوا دماء المسلمين انطلاقًا من هذه الرؤية الضالة.
ولدي يقين بأن أيادي يهودية فارسية اشتغلت في الخفاء متسترة بغطاء ديني مزيف لإبقاء الفرقة في المجتمع الإسلامي، وقد رصدت الشواهد على ذلك في معركة «الجمل» 36هـ وفي معركة «صفين» 37هـ.
ليس من تلك الموقعتين فحسب؛ بل من الحادثة الأولى مقتل عمر، ثم الفتنة على عثمان، ثم الانشقاق على علي رضي الله عنهم.
يتبع