خالد احمد اليوسف
1
قداسة أمي لا يوازيها مكانة وروحانية وطهراً إلا من هي مثلها! وللأمومة عظم وجلال كبيران منحة من الله جل جلاله، فمن رضيت بها كانت هي سبيلها في الحياة، ومن لم ترض بها كانت أم ولود لا ترتقي للمكانة الكبرى، والخيط الفاصل يأتي من الصلة الربانية في الولادة والتربية والرعاية.
2
شموخها ينكسر، وعنفوانها يتشتت أمام المرض المستبد بقوة، وقواها تنهار شيئاً فشيئاً، وتعلن أنها لا تستطيع الوقوف، ويبقى إيمانها بالله فوق كل شيء!
3
يتسرب الخوف إلى وجدانها، ويتزايد القلق قوة وبناءً، وتتضاعف نبرته ويعلو صوته، فتخشى من كل شيء حولها، وتبقى كلمة لا إله إلا الله لتزرع الاطمئنان في قلبها!
4
تحب الناس من حولها، تبحث عن وسيلة تجمعهم بها، تجدد العهد دوماً في بقائهم في حياتها؛ إلا أن المرض أفقدها بريق حبهم، والخوف منهم، وكره تجمعهم، وتردد أن ما أصابها هو من حبها لهم!
5
غادرت النظارة وجنتيها، ولم تعد نظراتها كما نعهدها، أصبحت مدهشة بالأسئلة المتسربة لكل من يعرفها، ويفهم كلماتها، ويفسر المعاني بطريقته؛ أهي تقول: ما الذي أصابني؟ ما هذه النكسة في حياتي؟ ما الذي أحالني إلى كيان معطل؟ لماذا بتُّ عاجزة عن القيام والحركة والسير؟ بل عن خدمة نفسي بنفسي؟ وتتطاير الأسئلة بيننا!
6
مر أخي الأكبر بمرحلة علاج طويلة من المرض الخبيث في ألمانيا، ورافقه أخي الآخر، كان على علم بكل التفاصيل، وحينما زارها بعد عودته، حاول تسليتها بالحديث عن ألمانيا، وعن الإمكانيات الطبية المتقدمة فيها، وأسهب في الحديث عن كل شيء رآه، فوجئ لحظتئذٍ ببتر حديثه منها بكلمة واحدة:
اسكت!
أو غير الموضوع!
أو لا تجلس أمامي!!
7
جميع الخيوط تنسج لها لوحة واحدة، أن المرض استبد وسكن جسمها، دخولها المستشفى، العناية الفائقة، العزل في غرفة خاصة، جميع أبنائها من حولها، زياراتهم التي تقترب منها أكثر وأكثر، وقلب الأم الكبير الذي لا يكذب!
8
نَفَسُها يضطرب في صدرها، والأكسجين يتصاعد، جيئة وذهاباً، نقصاً ثم نقصاً واضطرابا! ونبحث عاجلاً مع الأطباء عن عوض عبر الأنابيب والماء المنقى، هاهي حالة التنفس تشد أزرها، ليجدد سريانه اصطناعياً بإحساس مختنق!
9
الصدمة من أي مرض يصيب الإنسان لا تمر بسهولة، فكيف حين يعلم أنه مصاب بمرض خبيث! إلا من منح يقيناً وإيماناً لا حدود له، والحمد لله على قضاءه وقدره!!
10
شهوة الأكل والشرب لا يفقدها الإنسان الطبيعي اختيارياً، فكيف به إذا فقد شهوة الكلام؟ شهوة الحوار والاستماع؟ شهوة رؤية الآخرين؟
11
المرض العضال ينسيك الابتسامة، يخطف بريق النظرات، وشعاع العيون، ينسيك أحب الأصوات إليك، ورؤية من له في قلبك سكنا!
12
تستدعي حالتها الآن سجلها المرضي، فتتذكر أيامها ولياليها وهي طريحة الفراش، وكأن العمر أصبح صفحات مفتوحة في لحظات!
13
الحيرة ترسم خطوطها عنواناً لنا أمام الطريق الأسلم في علاجها، جميعنا يرفض الكيماوي، والعجز يكبلنا في التخفيف عنها، وهي تكابد الألم، وتتجرع أوجاعه، وتقف صابرة محتسبة الأجر من الله، وانتظار الفرج في شفائها، والأطباء يعدون بعلاج جديد بحول الله!
14
في جناح الرحمة، بقسم القضاء والقدر تتعبد الله في حيز قصير، وسط الأنين الممتزج بالدعوات الصادقة، أن يخفف الله من الآلام، ويوقف تمدد الخلايا الخبيثة في الأجساد المنهكة من المرض.
15
مواجهتها للمرض لم تكن عادية، إحساسها يوحي لها أن الأمر خطير، وأن أبناءها يخفون عنها سراً لا تعلمه! لكن إرادة الخالق اللطيف بعباده ساقت الأحداث لها لتقف بوجهه مباشرة، بعد انتقالها لمستشفى آخر، لم يتخذ طبيبها المباشر خطوة إلا بعد استشارتها، فكانت هي صاحب الموقف بإيمان أقوى!
16
بين الصحو والإغفاء يتمدد الوقت، وهي تلقي بجسدها المنهك يمنة ويسرى على فراشها الأبيض، وحكايات النساء الممتزجة بمرارة الألم من حولها، تنثر سحاباً كثيف السواد وسط الغرفة الكبيرة، فتشعر بأوجاعهن وأنينهن، مكوناً ضباباً في باطنها، وتعلن لزائرها بعفوية أن الخلايا الخبيثة تمرح وسط الغرفة!
17
جميع النساء من حولها في تبتّل وتهليل، وإيمان وترتيل، وروحانية لا تنقطع عن الله، وباتت النساء يخففنَ عن بعض مصيرهن مع محلول الكيماوي المتسلل إلى أجسادهن، والأمل بالشفاء يلوح لهن مع إشراق كل يوم.
18
أيفترس المرض جسدي؟ وتخر قواه وحيويته؟ ها هو مُنهك متناثر الأعضاء؟ ولم تعد روحي متفاعلة مع الحياة؟ نعم هو كذلك تسلل إلى قلبي فأضعفه، وبات المرض متسلطاً على كيان كامل، فانزويت مع ذاتي، مع معاناتي والآلام المبرحة، ولم أعد أرى شيئاً أمامي إلا الوجع!
19
الزائرون يبكون من تحولات المريض الجسدية، ومن لم يبك عليه استبد به الحزن، ومن لم يحزن جلس في دهشة ضائعة، المرض امتحان البشر أمام صدمات الزمن!
20
الأصوات تتردد في الجناح ألماً وأنينا لا حدود له، تُجمع أن المرض الخبيث قد استطاع السريان في جميع الأجساد، لا يفرق بين صغير وكبير، والحكايات تسرد أحداثها وتفاصيل حياتها معه، والشكوى من حياة عصرية مخيفة، موحشة، تجتث كل جميل فيها!
21
الموت يدور بين الأجنحة الموبوءة بالخلايا الخبيثة، إنه يقيم هنا في جناح 522 ، فيتخطى أحدهم اليوم، ويخنق الآخر في غرفة أخرى، والأجل ينتظر الآخرين، رحم الله الموتى
22
جناح الخلايا مخيف مرعب، تتنزل الرحمة في أرجائه، لتنسيك الخوف والرعب والتشاؤم بذكر الله والعودة له بإيمان قوي
23
آثار الحزن يخنقها، بعد معاناة جارتها من الخلايا الخبيثة، ثم نهايتها قبيل الفجر بذكر الله والتشهد على التوحيد، ها هو في اليوم التالي يقترب من الأخرى، فتصعد روحها إلى بارئها، وتتعالى النداءات لله تعالى بالرحمة والمغفرة لها، من ياترى يقف الموت على رأسه الآن؟
24
كل الممرات ترقبني وتنتظر مجيئي، والبهو والمصاعد والكراسي وبعض رجال الأمن، هذا المكان جزء من الحنين أثناء زيارتي
25
أن تسلك طريقاً واحداً في كل يوم، وتتعود نظراتك على مشاهده، وتشعر أن مركبتك مثلك، فاعلم أن طريقك للمستشفى هو طريق الجنة!
26
إنا لله وإنا إليه راجعون، الأربعاء الحزين، قريب الظهر وذكر الله يعلو في السماء، تلبي نداء الله بشهادته الخالدة، لتعلو روحها الطاهرة مع اسمه عالياً، غفر الله لأمي.
27
أقف بين يديها، ملتصقاً بمرقدها الأخير، وقد سقط رأسها يميناً، أنحني إليها مقبّلا قبلة الوداع على جبينها، بعد أن صعدت روحها الطاهرة لله عز وجل، وأردد: اللهم ثبتها.. اللهم ثبتها.. اللهم اغفر لها وارحمها!
28
تقاطر إخوتي على غرفتها تباعاً، وهول الصدمة يعلن البكاء صوتاً واحداً، ومرارة الفقد والرحيل والوداع تنسج خيوطها بيننا، فيجلو الإيمان بقضاء الله وقدره شدائد المصيبة، والتسليم بوفاة الغالية رحمها الله.
الخميس 21 رجب 1437هـ/ 28 أبريل 2016م