د.عبد الرحمن الحبيب
قيل الكثير عن ماكينزي، بعضها وصل لحد الأسطورة.. فهي الأغلى والأنجح والأكثر وجاهة وشهرة بين كل الشركات الاستشارية بالعالم.. وهي المحسودة والمكروهة لأنها القاسية على الموظفين والمدللة للمديرين التنفيذيين.. فهل تستحق الثمن الذي تطالب به، وهل هي جديرة بالثقة؟
كتاب داف ماكدونالد «الشركة، قصة ماكينزي وتأثيرها السري في التجارة الأمريكية»، يعد مِن أهم مَن تناول الموضوع، محاولاً فك لغز ماكينزي عبر إلقاء نظرة تاريخية منذ نشأتها حتى وقتنا الحاضر، تزود القارئ المهتم في الاستشارات الإدارية وتحسين فهمه لهذه الشركة مما يجعله يتخذ موقفاً منها يناسب متطلباته.. وهنا عرض للكتاب الذي لم تصدر له أي ترجمة للعربية فيما أعرف..
في منتصف عشرينات القرن الماضي تأسست شركة ماكينزي الاستشارية على أفكار وضعها أستاذ المحاسبة بجامعة شيكاغو جيمس ماكينزي. كانت نصيحته بسيطة: يحلل عملك محدداً الأخطاء، ثم يخبرك كيف تحسين وضعك ومنافسة الآخرين. كان ذلك، وقتئذ، إعادة لدور المحاسبة من مجرد مهمة بيروقراطية إلى تأسيس صناعة قرارات تجارية استراتيجية تعتمد على البيانات وتحليل محاسبي دقيق ومفصل لجميع جوانب العمليات بما فيها العملاء، والموردين، والجهات المنافسة.. إلخ.
لم يكن جيمس ماكينزي هو الذي أدخل الشركة إلى واجهة العالم، بل خليفته، مارفن باور، خريج جامعة هارفارد، عندما انتقل منتصف الثلاثينات إلى الشركة الوليدة التي تضم بضعة موظفين. مات جيمس فجأة عام 1937، فأصبح باور مدير الشركة، ونجح في تثبيت مصداقيته ونفوذه داخل الشركة، ونقلها من شركة استشارية عادية إلى مؤسسة ضخمة ذات مكانة بارزة. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ مجد الشركة في الصعود..
الشركة وثقت علاقات حميمة مع قادة الشركات عبر تركيزها على خدمة المديرين التنفيذيين، وكثير من خريجيها تسلموا مناصب قيادية في الشركات الأمريكية وبعد ذلك أصبحوا عملاءها. وتكونت لها شبكة أصدقاء هائلة من رجال الأعمال الأميركيين، مما جعلها في وضع فريد للحصول على المعلومات التجارية والأسرار الدفينة.. صارت قوة ماكينزي تكمن في بيع الأفكار الصحيحة في الوقت المناسب.
ماكينزي، بقيادة باور، تمددت إلى الفكر الأكاديمي، وعملت على إنشاء الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة هارفارد واضعة معايير أساسية تقوم على البيانات الحسابية والموضوعية والتحليل الكمي. كذلك تمددت إلى الميدان السياسي، مستفيدة من الحكومة الأمريكية خلال الحرب الباردة، حتى أن الرئيس الأمريكي ايزنهاور استخدم استشاراتها للمناصب الرئيسية في حكومته. باختصار، أعادت ماكينزي تعريف رأس المال الأمريكي حتى أصبحت النسيج الضام للرأسمالية الأمريكية لأكثر من عقدين من الزمن، وخلقت «دولة المقاولات». وساعدت على انتشار هذا المفهوم بجميع أنحاء العالم.
المجال الأساسي الذي تفوقت فيه ماكينزي كان مساعدة قادة الشركات في خفض التكاليف وتسريح الموظفين، مما شكل سمعة سيئة لها بين الموظفين والعمال.. وهذا من عيوب نظام ماكينزي بأنه جامد منفصل عن المشاعر الإنسانية، حتى أن جيمس ماكينزي نفسه كان صعباً عليه تطبيقها بسهولة، نظراً لقساوتها في قطع أرزاق الناس. وفي الوقت نفسه، كانت رؤى ماكينزي غطاء للمديرين التنفيذيين لزيادة رواتبهم، حتى قفزت لأرقام فلكية؛ فالمدير التنفيذي هو في نهاية المطاف، الزبون والعميل لها..
وإذا كانت ماكينزي بشرت بزمن الخطط الاستراتيجية، ففي بداية السبعينات عندما قربت طفرة الاستشارات التنظيمية من نهايتها، واجهت ماكينزي تحديات خطيرة لهيمنتها من شركات منافسة مثل مجموعة بوسطن، وباين، اللتين أدخلتا أطراً جديدة استحوذت على اهتمام المعنيين، وأعادت تعريف «الاستراتيجية». كما أن الشركات الحالية المتفوقة مثل جوجل وأبل لم تحتج لماكينزي. ستيف جوبز، لم يكن بحاجة للتحليل الكمي الماكينزي لقفزة أبل الكبرى، لقد صنعها بفضل قدرته على تخيل المنتجات التي تُسعد المستهلك.
رغم النجاحات الباهرة في تاريخ ماكينزي، فثمة حالات فشل فادحة بالسنوات الأخيرة. فهي لم تستطع إنقاذ جنرال موتورز رغم سنوات الاستشارة، بل لم تتمكن من فهم المشكلة.. وأزمة بنك مورجان، فقد نصحته بالعودة لأنشطته الإقراضية وبدلاً من إنقاذه أفلس البنك.. وكانت شاهداً استشارياً على انهيار شركة انرون.. ولم تتوقع الأزمة المالية عام 2008 رغم روابطها الوثيقة بجميع أنحاء العالم المصرفي وبلاغات التحذير التي وصلتها من بعض البنوك..
نعود لجوهر المسألة.. هل ماكينزي تستحق سعرها الباهظ؟ يرى ماكدونالد أن الإجابة الحاسمة صعبة؛ ففي خاتمة كتابه يتساءل: ما الذي يفعله استشاريو ماكينزي؟ الجواب الشامل أيضاً غير مُرضٍ. لا توجد استشارات عظيمة للشركة، بل علاقات عظيمة مع العملاء. الأدهى من ذلك، على الرغم من إصرار الشركة على ثقافتها من «القيم» التقنية في الإدارة، فإنها لا تطبقها إلا عندما تكون مفيدة..
هنا يضع ماكدونالد في استنتاجه الأخير احتمالين لماكينزي: الأول، أن استراتيجيتها الأساسية ستبقى بأحسن الأحوال سلعية (بضاعة في السوق)، وبأسوأ الأحوال غير ذات صلة بعصر إنترنت تهيمن عليه قيادة شركات تحتاج للعمل الفوري المباشر، وليس للاستراتيجية (طويلة الأمد)؛ وغير متصلة بالتخصصات الدقيقة للصناعات المعقدة مثل التكنولوجيات الحالية. حتى العميل الأكثر ثقة بماكينزي قد يفقد الحماس بها إذا لم تساعده على الحل الفوري لمشاكله. العديد من شركات اليوم لا تملك ترف وضع استراتيجيات طويلة المدى، فهي بحاجة إلى الإنجاز السريع. هذا ليس من قدرات ماكينزي.
التحدي الأكبر لماكينزي هو تقديم معلومات ونصائح لا يعرفها عملاؤها. إنما عالم الأعمال حالياً يزدحم بخريجي الدراسات العليا في إدارة الأعمال، والنصائح المشابهة لما تقدمه ماكينزي متوافرة بسهولة ويمكن شراؤها بأبخس الأثمان.. جوجل مفتوح للجميع..
الثاني: لا يمكن إنكار النجاح والتكيف اللذين أثبتتهما ماكينزي على مدى قرن من الزمان تقريباً. فرغم جميع التهديدات المذكورة لمستقبل الشركة، فإنه يصعب تخيل عالم الأعمال دون ماكينزي، لتلبية احتياجات وطموحات وصعوبات يواجهها كبار المديرين التنفيذيين من أكبر الشركات في العالم: «في مؤسسة كبرى.. القيادة هي حول جعل الناس تتبعك، لكن قبل ذلك أنت تحتاج إلى تحديد الاتجاه الذي تختاره. سيكون هناك دائماً طلب لهذه الاستشارة، وهذا هو بالضبط ما توفره ماكينزي».
أخيراً، إذا كنت تسأل هل استشارات ماكينزي تناسب أوضاعنا وتصلح لمؤسساتنا، فعليك أن تسأل ما هي توجهات قادة المؤسسات أو المديرين التنفيذيين للقطاع الذي أنت فيه، فماكينزي في المقام الأول تركز على إرضائهم..