أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(4):
قال أبو عبدالرحمن: قال الدكتور عثمان أمين في مقدمته للطبعة الثانية لكتاب (مَشْرُوْعٌ للسلام الداَئمِ): ((إنَّ (كانط) كان يعيش في دولةٍ استبدادية متزَّمِّتة -؛ وهي دولة (بروسيا) في عهد (فردريك الأكبر) -: لم تَدَعْ للمفكِّر سبيلاً سوى الاسترسالِ في التجريدات الغامضة، والشطحاتِ الميتافيزيقية، والاقتصارِ على قدْرٍ يسير في الخواطر النظرية عن (قانونُ الطبيعةِ)، و(قانونُ الأخلاقِ)، و(قانون مَلَكةِ الحكمِ) [؛ و(كانط) نفسُه غارقٌ في هذا الغموض الثلاثي].. ويجمل أن يُذْكر موقفُ (كانط) قبل تألِيفِهِ كتابَه عن السلام؛ إذْ وجِد اسمه وقد زُجَّ به في نزاع سياسي حادٍّ؛ وكان تعاطفُه مع الثورة الفرنسية تعاطفاً جهيراً أدَّى إلى أنْ اتَّهمه بعضُ الكُتَّاب بتهمةِ اليعقوبية؛ وهي تهمة خطيرةٌ في تلك الأيام؛ فيتعيَّن علينا أنْ نجعلَ صورةَ ذلك الجوِّ الفكريِّ الإرهابي حاضرةً في أذهاننا؛ ونحن مضطرون إذن أنْ نترصَّد أيَّ إشارةٍ تسنح فيما بين السطور قد يكون فيها بصيصٌ من نور، وأنْ نصطنِعَ هنا منهجنا في (الجُوَّانية)؛ فنفترض أنَّ (كانط) سيمضي إلى أقصى ما يستطيع في اتِّـجاهِ حكومةٍ شعبية بالمعنى الصحيح؛ وهو افتراض له أهميته في تفسير كثير من الأفكار الرئيسية [الرئيسية صحيحة ما دامت تعني عناصر مجتمعة لا عُنْصراً واحداً رئيساً] التي يمكن أنْ تكونَ مفتاحاً للمذهبِ الكانطي كله)).
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ أنَّ (قانونُ الأخلاقِ) عند (كانط) نفعيٌّ افتراضي توسُّلِي، وأما (قانونُ الطبيعة) فهو ميتافيزيقيٌّ يعني في عمومه (العنايةَ الإلهية) من الإله الذي لا يُؤمن به (كانط) على الحقيقة إلَّا بقيدِ أنَّ الإيمانَ وإن كان إيماناً بخرافةٍ في مُعْتقَدِه ينفع إذا حَقَّق غايةً تنسجم مع أيديولوجيته، وعسى الله أنْ يُعِينني في مناسباتٍ قادمة على تحقيق هذا الإيمان التوسُّلي.. وأما طَمَعُ الدكتورِ عثمان في بصيص من نور يرفع عن (كانط) تُهْمَة اليعقوبية الداوودية الصهيونية: فإنما هو طَمَعٌ في مستحيل؛ لأن سياقه الفلسفي لن يُخرجه من مضيق الولاء للهمِّ الصهيوني؛ ولهذا تجد في السياق ما يعترف به الدكتور عثمان نفسُه.. قال: ((وتنصُّ المادة الثانية النهائية على أنَّ القانونَ الدولي يجب أنْ يكون قائماً على اتِّحادٍ من دولٍ حرة [أيْ اكتسبت حُرِّيَّتَها من تفرُّدها في القوة والنفوذ]، وواضح أنَّ (كانط) يُفضِّل الاتحادَ على الحلف، ويُؤَمِّل في [ الأفصح مِن] حكومةِ أممٍ أو دولةٍ عالَمِيَّة هدفاً نهائياً للإنسانية؛ وهو يقرر أنَّ اتِّـحاد الدول أفضل من لا شيئَ؛ ولكنه ليس هو الوسيلةَ المؤكَّدةَ لمنع الحرب؛ فإنَّ هذه الغايةَ لا تتحقق إلا بحلِّ واحد: (حكومةٌ واحدةٌ للعالم بأسره)!!.. [قال أبوعبدالرحمن: عَلْمَنَةُ الدولةِ الواحِدةِ التي تحكم العالَم ذاتُ جذورٍ تاريخيةٍ بعيدةِ الْـمَدَى في الافتراءِ اليهوديِّ قبل العصر الحديث الذي وُلِدَتْ فيه فِكْرَةُ الدولَةِ الواحِدة، ثم العَلْمَنةُ، ثم صراعُ الحضارات.. إلخ].. ولكنه لا يجهل أنَّ مثلَ هذه الحكومةَ قد تصير استبداداً عالمياً؛ ومن الحكمة إذن أنْ نلتزمَ [أي يَلْتَزِموا هُمْ] الاتحاديةَ الفيدرالية.. وقد كان اعتقادُ (كانط) أنَّ تحقيق هذه الفيدرالية ممكن؛ ولعله كان متجهاً بخواطره إلى فرنسا، وربما إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وتعاطُفُه العميق مع الثورة في كلِّ منهما أمر معروف.. وتَحَقُّقُ هذا الاتحادِ الفيدراليِّ في الوجود العِياني يقوم على التأمل التالي: (لو شاءت الأقدار [بل المشيئةُ لله وحدَه مُقَدِّرُ الأقدارِ، ومُغَيِّرُها إذا شاء] يوماً أنْ يقوم شعب قوي مستنير فيكوِّن من نفسه جمهوريةً مِن شأنها طِبْقَاً لطبيعتها أنْ تكونَ نازعةً إلى السلام الأبدي؛ فيومئذ تصبح هذه الجمهورية مركزاً للارتباط العام بين الدول الأخرى التي تستطيع أنْ تنضمَ إليها، وتكْفَلَ على هذا النحو حريةَ تلك الدول وَفْقاً لفكرة قانون الأمم؛ وهذا الارتباطُ يزداد اتساعُه تدريجياً إلى رقاعٍ أبعدَ كلما تتابعت الدولُ المُنْضَمَّةِ إليه.. إنَّ التاريخ لم يسلك هذه السبيل منذ القرن التاسع عشر، ولكنَّ الواضح أنَّ (كانط) خطر بباله الدورُ الذي كان يمكن لفرنسا أو للولايات المتحدة أنْ تقوم به لو أنهما كانتا على وعيٍ تامٍّ بالمهمَّةِ الإنسانية التي نَدَبَتْها الأقدار [قال أبو عبدالرحمن: بلْ أهوائهم التي جعلها الله لِحُرِّيَّةِ اختيارِهم؛ والْمُكَلَّف مأجور على الخير مُحاسبٌ على الشَّرِّ؛ لأن الله جعل له حُرِّيَة الاختيارِ، ولا يُحاسِبُه رَبُّهُ إلَّا وَفْقَ قُدْرَتِه] لِحَمْلِها)).
قال أبو عبدالرحمن: الاتحادُ على قُوَّة الدُّول الحُرَّة المتنفِّذة اتحاداً فيدرالياً: هو الأَوْلَى عند (كانط)؛ لأنَّ الاتحادَ على الحلف يعني أنَّ الحليفَ ذو قوة لحماية نفسه، والدفاع عن أيديولوجيته؛ ولأن الفيدرالية مِنْحَةٌ مُؤقتة من الدول المتنفِّذة تزول عند قسمة المتنفِّذِ الغنائم، ولأنه لا قَدَر ولا قُدْرَة للفيدرالي إلا في الاتكال على وعْدِ المتنفِّذ.. ثم إنَّ (كانط) يُعْلن صراحةً ضرورةَ الحكومةِ العالمية الواحدة المبدئية التي تُمَهِّد السبيل لحكومة عالمية واقعية تُفني كثيراً من الخلق كما في نبوءات التلمود (اللاهوت الوضعي)، ثم تظل البقيةُ سيداً ومسوداً؛ والأَخِيْرُونَ هم (الجوييم) لا غير، ويكتمل هذا التصور ببيانِ مذهبِ (كانط) في التعامل مع الأقلية، ومذهبهِ في التعامل مع الجيوش، ومذهبِهِ في الحرب، وأنها في وقتٍ ما تكون ظاهرة حضارية؛ وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.