سهام القحطاني
أظن أن النقطة الأجدر بالبدء هنا هي العلاقة بين الثقافة و الترفيه، وماهية تلك العلاقة قد تتفاوت ما بين الكلية و الجزئية، لكن ما يُمكن التأكيد في تلك العلاقة هو أن اعتبار النفي الذي قد يحسبه البعض أن الثقافة منفصلة عن الترفيه أو يجب أن ينفصل الترفيه عن الثقافة، في مجمله هو اعتبار غير حقيقي.
ولعل لهذا الاعتقاد ما يبرر له من شيوع دلالة خاطئة تكمن في أن الترفيه «تسلية مفّرغة الدلالة» ؛وفكرة «التسلية» في عمومها يشوبها الكثير من شبهة اللافائدة و الفوضوية ،و تتركز حول اللهو الفارغ من قيمة الإضافة أو التغيير أو التعديل.
و هذا الشيوع» التسلية من أجل متعة التسلية» بلاشك غير صحيح، حتى و إن أصبحت التسلية من «كماليات المرء والمجتمع» و غيابها لا يضرّ المجتمع، لكن في مقابل ذلك فحضورها بعشوائية و فوضوية هو مضرّ ولاريب للمجتمع، لأنها حامل مفسدّة في غياب القيمة و التخطيط و الرقابة.
و الاستسلام للحضور غير المحسوب للتسلية و عدم التخطيط الممنهج المتفق أو المؤِكد على الرؤية النهضوية التي تقود البلد بكل المقاييس «كارثة فكرية» تُسّطح وعي المجتمع و تسحب البساط عن قيمة الترفيه، ولذا يجب أن لا ينفصل الترفيه عن الثقافة، والأمر يبدأ من «ثقفنّة الترفيه» أولا من خلال نشر «ثقافة المصطلح» و توطينه في الوعي المجتمعي، لفكّه من قيد ما تعارف عليه الناس.
وهنا الإشارة تخص «التفكير السائد» للترفيه، فالترفيه ليس كما هو سائد «التسلية للتسلية»، كما أنه ليس ما يتم تداول توصيفه المباشر بأنه «كمالية» لا تضرّ و لا تفيد، فالتسلية هي رسالة حاملة لمضمون «موجه»، وليست هناك تسلية للتسلية فقط أو تسلية فارغة من أي محمول، نعم قد يتفاوت تقويم و تقييم هذا المحمول حتى يقترب إلى أدنى نقطة من الصلاحية القيميّة، وحتى الأدنويّة تلك ستظل مثار جدل،لأن الاختلاف حول تثمين الصلاحية القيمية هو الذي يتحكم في عدم وصول مضامين الأشياء إلى الصفريّة رغم فجاجة أدنويّتها.
ما أريد تأكيده أن أي تسلية هي حاملة بالضرورة لمضمون يسعى إلى تكوين «أيديولوجية «واضحة أو غير واضحة؛ أدناها التحكم في نقاط ضعف الإنسان؛ خوفه، طمعه، مكبوتاته، تحكم يتيح للتسلية «تحصيل نفعية» سواء ذات جذر ربحي ،وهو ما يعني أننا «سنقف أمام قيمة رأسمالية تتحرك في ضوئها «اقتصاديات الترفيه» بصرف النظر عن مستوى وصفها أو تداولية هويتها أو نوع قيمتها، وهو ما سيفتح باب التنافس على «تجارة الترفيه» على مصراعيه.
أما المستوى الثاني من «تحصيل النفعية» فهو بناء الوعي النهضوي للإنسان،وبذلك يصبح الترفيه هو «الداعم الإجرائي لأهداف الثقافة و غاياتها»؛فقد خلق الله البشر وفق مسطرة مختلفة من الفروق الفردية و أنماط الشخصيات، و وفق ذلك الاختلاف تختلف استجابات الأفراد للأهداف و غاياتها، واختلاف تلك الاستجابة عادة ما يتطلب وسائل إجرائية متعددة تغطي كل مساحة تلك الاستجابات المختلفة.
فهناك من تتناسب استجابته مع الثقافة ذات القالب الفكري ،وهناك من تتوافق استجابته مع الثقافة ذات القالب الإبداعي، وهناك من تتوافق استجابته مع الثقافة ذات القالب التشكيلي، وهناك من تتوافق استجابته مع الثقافة ذات القالب الفني ،و هناك من تتوافق استجابته مع الثقافة ذات القالب الشعبي.
وبذلك يدخل في إطار الترفيه «الندوات و الأمسيات الأدبية، والأندية الثقافية في كل حي، والمعارض الفنية ،و الحفلات الموسيقية و الغنائية و المسرح و السينما ،و الشعبيات، و المتاحف، والآثار ،وصناعة الدراما.
ومن خلال خارطة إطار الترفيه السابقة نرى أن الترفيه «ثقافة وصناعة».
ثقافة في أهدافها و غاياتها و صناعة في إجراءتها و أشكالها، لكن التنظير دوما سهل في التأليف لكن «الكلمات التي ليست كالكلمات» مهما بلغت من عظمة و قوة لايمكن أن تصنع بمفردها إنجازا.
ولذلك فنحن أمام ركيزتين لصناعة الترفيه أولهما تأطير الوثيقة الفكرية للترفيه،وهذا التأطير غالبا ليس مستقلا بل ارتباطيا بين الثقافة و التعليم والآثار و الفنون الشعبية؛ لأن الثقافة غالبا «هي تغذية راجعة» لقيم الثقافة و الفنون و لأهداف التعليم .
و ثانيهما «صناعة الترفيه» وفق مقامات الارتباطات الفكرية السابقة و وفق وظيفتها الرئيسة، ثم تقديم أشكال إجرائية تتسع لتلك الارتباطات و الوظيفة و تتسم بالجدّة و المتعة، ولدينا الإنتاج القادر على ذلك ولعل فيلم الانيميشن بلال الذي فاز مؤخرا في كان، تجربة ناجحة لصناعة ثقفنة الترفيه وعالميته.