فهد بن أحمد الصالح
لاشك أن المتقاعد والموظف يعيشان بفرحة وترقب رؤية الوطن، لأنها خروج إيجابي عما ألفه الناس طيلة العقود الماضية وكانوا لا يعلمون عن خطة وطنهم إلا الاسم حتى ولو يروا ازدهار ونماء البلاد يوماً بيوم فهم على يقين أن هذا النماء أتى بحكم الحاجة وليست الخطة، واليوم أصبح الجميع أمام خطة لها تاريخ زمني ومؤشرات أداء يمكن قياس نتائجها وأصبحت كمية بعد أن كانت نظرية ويستطيع أي مواطن أن يلمس نتائجها ويقارنها مع ما صدر فيها، كذلك فإن تلك الرؤية أولت ادخار المواطن اهتمام خاص بقصد رفعه معدله من 6 % إلى 10 %، كذلك ما قام به مجلس الاقتصاد والتنمية في جلب مقيم عالمي لمركز الملك عبدالله المالي الخاص بالمؤسسة العامة للتقاعد من أجل إعادة الطرح والتفكير في الاستفادة منه وتعويض المؤسسة عنه وانتقاله إلى صندوق الاستثمارات العامة، بالإضافة إلى الكثير من المؤشرات التي تلامس احتياجات ومداخيل المتقاعد والتي يجب الاستعداد لها فهو قد يكون عاجزاً اليوم فكيف به في الغد المرتقب.
ومثلما يثق الجميع أن الحياة لا تستقيم إلا بالمال ولذا جعله الله سبحانه وتعالى من زينتها فقال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} الكهف: 46، فقد ينعم الإنسان بزينة البنون ويصلحهم الله ويكونون بارين بالوطن الصغير والكبير ولكن يقف المال موقف المحقق لهذه الزينة لأن لا ازدهار للفرد دون مال يعينه ولا رفاه في الحياة دون مال يحققها وينميها ولا فرحة بالولد إن لم يحقق التميز ويرتفع مدخوله، وهي علاقة لا تستقيم إن لم تكن تكاملية حتى وإن كان هناك من عاش زينة الحياة بالمال وحده وسخر كل احتياجاته له بالمال بعد توفيق الله له والكثير من الأمثلة للناجحين ممن حرموا نعمة الذرية، ولكن ربما لا تستقيم الحياة مع الولد دون مال لأن الإنسان سيحترق ألما إذا رأى الابن دون عمل أو دون نشاط أو دون كسب مادي في ظل ظروف بعض المجتمعات الفقيرة، بل إن ندرة المال قد لا توجد الابن الصالح في مجتمع أصبحت الماديات لديه هي عصب حياته وعليها يعتمد.
هذا المدخل يقودنا بصورة أخرى إلى فلسفة الادخار وثقافتها لدى الصناديق السيادية (معاشات التقاعد والتأمينات الاجتماعية)، وقبل ذلك فنحن متفقون أن النظامين في الأصل هي أنظمة ادخار للموظف بعد تقاعده وهي كذلك رحمة من الله ولا يشك أحد على منافعها سواء من قل راتبه التقاعدي أو ارتفع، كما أنها والحق يقال أنها تبدأ مع الموظف في راتب متدني وتخصم عليه النسبة المقررة بالمناصفة بينه وبين الدولة أو القطاع الخاص وتصرف تقاعده سواء المبكر أو النظامي على أساس آخر مرتب قد استلمه وتعزز الفرق باستثمارها لتلك الحسومات مع تعرضها للربح والخسارة مثل غيرها من ضروب الاستثمار إلا أنها لا تدخل إلا في الأكثر أماناً وإن قل هامش الربح وتضمن دوام عطائها الدولة لأنها مؤسسات حكومية.. ولا شك إن الرواتب التقاعدية للموظف تأتي من خلال ذلك الاستثمار حتى وإن حدث تصفية لحقوق الموظف قبل بلوغه السن المحدد للتقاعد وهذا دون شك يثقل كاهل الصناديق لأن الأصل هو استمرار خدمة الموظف.
وفي السنوات الأخيرة بدأت الصناديق السيادية بقرع جرس خطورة الموقف حول إمكانية إفلاسها وتراكم الديوان عليها لأسباب طرحت في وسائل الإعلام وتحت قبة مجلس الشورى ولم يصدر في العقد الماضي ما يحقق الثقة في وضعها المالي وخاصة معاشات التقاعد لأنها ربما أكثر ضبابية في قوائمها المالية واستثماراتها والأمر الأقسى من ذلك أن لها عند وزارة المالية استحقاق تجاوز 51 مليار أعلنت في مجلس الشورى أكثر من مرة وطلب تفسيراً لذلك من معالي وزير المالية ولم يصل هو أو إفادتها لتقطع جهينة قول كل خطيب، ويقع تحت رعاية هذا الصندوق المتقاعد المدني والعسكري الذين يتجاوز عددهم 640 ألف متقاعد حسب الإحصائيات الرسمية لهم، وكذلك الحال وإن كان أرحم وضعاً صندوق التأمينات الاجتماعية، والذي لا نرجوه هو أن يقع المحذور في تلك الصناديق وتتولى الدولة دفع مرتبات المتقاعدين التي يلزم بها النظام في الأصل حتى إن كانت الدولة -أيدها الله- مستعدة ولكن واقع المسؤولية يحتم التفكير الجاد والمعالجة.
وحتى تتم معالجة الوضع المالي المستقبلي للصندوقين وقيام وزارة المالية بجدولة مستحقات صندوق التقاعد (المدني والعسكري) فإن الصناديق التقاعدية مطالبة أن تغير في سياستها الاستثمارية وربما لوائحها التنفيذية وحتى في أسلوب تعاطيها مع هذا الملف البالغ الأهمية للمتقاعد وبالتالي نحتاج إلى طرح العديد من الخيارات في ظل الثقة الكاملة بها لأنها صناديق حكومية وتحظى برعاية كأمله من الدولة على أن تكون الأطروحات كلها خارج الصندوق التقليدي الذي كبلته البيروقراطية بأغلال جعلته للجمود أكثر منه للحياة والتعايش مع متطلبات العصر وربما إن هذه حال التعاملات الرسمية في دول العالم إلا ما يخص التعامل مع المال والاستثمار فيه فطول الإجراء يفوت الفرص وهو ما كنا عليه ولا نزال ونتطلع إلى التغير الذي يحتمه العصر، ويسرني أن اطرح بعض الصور التي ربما إن التفكير فيها يخرجنا من النظام المعمول به لأفق أرحب في تطويره وإعادة ترتيب الأوراق من جديد ولا أظنها بعيدة عن تفكير أصحاب القرار وهي:
أولاً: طرح برنامج ادخاري مع المتقاعدين بنسبة من الراتب التقاعدي يجري استثمارها بالإنابة عن المتقاعد وفق آلية محددة وأيضاً مدد معينة ومشاركة في الأرباح لا تتجاوز 33 % أو بمعدلات إضافية على قيمة الحصة الادخارية مثلما يجري في كثير من الهيئات والقطاعات شبة الحكومية والخاصة والبنوك، وهذا سيحقق الاستقرار المالي ويعزز المألة المالية للصناديق وسيضيف إليها هامش ربح يقوي مركزها المالي.. ومن جهة أخرى فإن الكثير من المتقاعدين إن لم نقل أكثرهم يتطلع إلى من يثق فيه ليدير استثماراته حتى وإن كان العائد المالي منخفض لأنه أسلم من واقع التجربة مع المئات من المساهمات العقارية أو الصناديق الاستثمارية في الشركات المالية أو البنوك وغيرها والنتائج تتحدث بوضوح.
ثانياً: دراسة الفرص الاستثمارية والدخول في شراكات ثنائية أو أكثر لأنشطة أو مجالات تنموية تكون فرص نجاحها في المستقبل واعدة وإدارة هذا المجال إدارة تجارية بحته تستطيع بديناميكية سريعة أن تتصرف لما فيه المصلحة العامة ولا تنتظر العجلة المعتادة في اتخاذ القرار التي يفوت معها الكثير من الفرص على الصندوقين مع تفويض الصلاحيات للجان تنفيذية للبت في الأمور المستعجلة فالسوق به المئات من الأنشطة المربحة وقفزات القطاع الخاص تشهد بذلك.
ثالثاً: الاستحواذ بالكامل على شركات وأنشطة سواء في الداخل أو الخارج ولا زلنا نستذكر إلى العديد من الدول قد سبقتنا بذلك وتمكن اقتصادها في ظروف صعبة أن يتجاوز الكثير من الهزات العالمية؛ ولا شيء ينقصنا عنهم إلا عدم رغبتنا في التجديد والبحث عن الفرص الكثيرة ربحية والأكثر استدامة في التنمية، ليس لضعف في القدرات ولكن خوفاً من خطورة المجازفة وإن كانت الأمور اليوم أسهل من ذي قبل مع توفر المعلومات وتجاوب غرف المال والأعمال ومساعدتها.
رابعاً: التوأمة مع صندوق الاستثمارات العامة وشراء أراض حكومية وإعادة تطويرها ليتواكب ذلك مع توجه وزارتي الشئون البلدية والقروية ووزارة الإسكان في إنشاء ضواحي وتجمعات سكانية خارج المدن الرئيسية لتقليل الهجرة إليها وتحويل التوجه إلى هجرة منها مع استكمال البنية التحتية سواء مع مطورين عقاريين من القطاع الخاص أو يقوم الصندوق بذلك مثلما قام بالعشرات من المشاريع العقارية الناجحة وإطلاق البيع على الخريطة مباشرة والاستفادة من الإيراد.
خامساً: من باب تبادل المنافع ولكون الكثير من مقرات الدوائر الحكومية مستأجرة فانه يمكن عقد اتفاقية إستراتيجية بالبناء لهم والإيجار عليهم خاصة وإنهم يملكون أراضي حكومية ولم تخصص في الميزانيات مبالغ لها، ولذا تدور عجلة الإيجار لعقود من الزمن، وقد يؤخذ ذلك على الأشد ضرورة والأكثر حاجة، وفي المدن الكبرى أولاً؛ وقد يحدد العائد في هذه الحالة بنسبة مجزية ومربحة للطرفين أو قد يكون مثل الإيجار المنتهي بالتمليك واستدامة الإيجار لتلك الفترة.
ويتطلع المواطن مع رؤية الوطن 2030 أن يولي مجلس الاقتصاد والتنمية اهتماماً خاصاً بالمتقاعد سواء في صناديقه (التقاعد والتأمينات) أو في الخدمات المقدمة له أو التطلعات التي يريد أن يختم بها حياته لأنه كان ولا يزال شريكاً في تنمية هذا الوطن الكريم وتطويره، بل كان الأجداد مع الموحد -رحمهم الله جميعاً- والآباء مع الملوك -رحمهم الله- والأبناء اليوم مع سلمان الحزم والعزم ومحمدي الرسم والحسم، فملف المتقاعد طال الحديث عنه ولم تأذن شمسه بالإشراق حتى الآن، وله مطالب واحتياجات سبق أن رفعت وصدر لها توجيه بالعناية والدراسة ولازالت تنتظر توجيه القيادة.. فدوام الحال من المحال، واستمرار النشاط أمر لا يقال، والعمل من جديد مشقة لا تطال، والتضخم يزداد والراتب لا يزيد، والصحة في نقص والتأمين عليها لا يقوى عليه من شاب في العمر بعد الشباب، فليس لمتقاعد الأمس وموظف اليوم إلا دولة قدرت العطاء وأغنت البسطاء واعتنت بالفقراء؛ والأمل بعد الله بفكر الشباب واستشارة الحكماء ورؤية المستقبل.
ختاماً.. لابد أن نخرج عن التقليدية في استثمارات الصناديق السيادية ومواكبة تسارع رؤية الوطن 2030 التي أقرت لتكون واقعاً يشاهده المواطن والعالم الخارجي وليست لتتغير مع كل قيادي يأتي وينسف عمل من كان قبله فقد جمعت شتات الخطط في خطة واحدة وسيلتزم بتنفيذها كل مسؤول يأتي، فالمستقبل لابد أن يكون أفضل من الحاضر والماضي، وأعداد المتقاعدين ستزيد والقطاع الخاص اليوم أصبح شريكاً تنموياً، ومعدلات الرواتب لديه أفضل من القطاع العام وفرصة التقاعد المبكر بدأت في ازدياد لكثرة الفرص لأصحاب الخبرات في سوق عمل يتطلب المهارة، وتعزيز الشفافية والإفصاح عن القوائم المالية والاستثمار وحسابات الأرباح والخسائر أصبحت ضرورة يجب على الصناديق تقديمها وهذا كله في مجال التحديات لتلك الصناديق، كذلك فإن جذب الخبرات الشابة لها أصبح ضرورة ملحة اليوم وما كان يصلح للماضي ويقبله الحاضر، فلن يكون بمقدوره أن يتواكب مع المستقبل في إدارة استثمارات بمليارات الريالات وتتعلق بها أماني وأحلام وتطلعات المتقاعدين وأسرهم والذي تجاوز عددهم المليون اليوم ويزدادون كل عام بقرابة 80 ألف متقاعد ويمثل لهم الراتب التقاعدي عصب الحياة خاصة من تقاعد في السن النظامي للتقاعد ولم يعد بمقدوره إعادة استنبات قدراته والاستفادة من خبراته لانطلاقة أخرى ولو كانت قصيرة أو استشارية، والتأكيد على ضرورة الاستفادة من التجارب العالمية في إدارة مثل هذه الصناديق شريطة الاطمئنان لشرعية أي استثمار يدخل ضمن اهتمام صناديقنا السيادية.