د. حمزة السالم
أعظم الولاء هو ولاء الأيدلوجيات، دينية كانت أو مذهبية أو فكرية. فمتى أمن الإنسان بأيدلوجية ما، رخص دمه وماله وولده ونسبه ووطنه في سبيلها. فالأيدلوجية تقلب الفطرة البشرية في سبيل نصرتها. فتجعل صاحبها المؤمن بها يرى الخيانة هي الأمانة والغدر هو الوفاء والخسة هي الكرامة. والأيدلوجية تنزع من فطرة معتنقها الرحمة الفطرية بأبيه وولده فيستحل دمهما في سبيل نصر أيدلوجيته. فالأيدلوجية تعمي صاحبها -المناضل دون العدالة في نظره- عن رؤية المظالم والانتهاكات وآلام البشر. فأيدلوجيته تجد لكل فاحشة تبربرا وتقلب كل فطرة إنسانية سوية إلى فطرة حيوانية مقيتة.
وكم من ساذج قدم خدمات لأعدائه، أعداء بلاده، بسبب إيمانه بأيدلوجية دينية أو فكرية أو عرقية. وما سند روسيا وصبرها في الحرب الباردة والساخنة إلا العملاء الخونة الذين قدموا خدمات تاريخية لروسيا لا تقدر بثمن. وما خانوا لأجل مال ولا دنيا، فترى أحدهم اشتراكي العقيدة والإيمان، ولو قدم الروس لأحد الخونة مالا، لاهتزت ثقته باشتراكيتهم وانقلب عليهم.
إيمان كثير من الاشتراكيين بالاشتراكية كان نابعا من مثاليتهم في نشد العدالة الاجتماعية. كمثل انتشار الصحوة عندنا في بلاد المسلمين واختلاف سلوك الناس تجاهها وغلوهم أو توسطهم، فالاشتراكية في تلك الحقبة الزمنية كان لها قبول وانتشار وتبني من شريحة واسعة من جميع الشعوب والأمم. وعلى قدر زيادة قوة إيمانهم بالاشتراكية، على قدر عظم ما أتت به خياناتهم. فمن القيام بأعمال تجسس واغتيالات خطيرة، إلى معرفتهم لعميل ولم يبلغوا به، إلى الإعجاب الشخصي بتضحية هؤلاء العملاء، إلى التردد القلبي السري في الحكم عليهم بالخيانة. تماما كحالنا اليوم مع أذناب داعش والقاعدة. فكم قاعد في بيته، مشارك بقلبه ومشاعره معهم. وكم من معجب بغزواتهم وكرهم وفرهم يبكي قتيلهم ويحزن لأسيرهم. وأمر هؤلاء المتعاطفين ليس هينا. فما عرقل الجهود الأمريكية في حربها الباردة مع الروس إلا المتعاطفين مع الاشتراكية الذي يرى فيغض الطرف والذي يُمسك فيُفلت. فنحن اليوم كحال أمريكا زمن الحرب الباردة.
وقد استغل الروس قوة تأثير الاشتراكيين على قرارات واشنطن فاستخدموها ليمارسوا تأثيرهم على كثير من قرارت التعيين والإجراءت الدبلوماسية والمالية لتصب في مصلحة الأجندة الروسية. وهكذا هو الحال اليوم عندنا، وهذه خيانة أدركها صاحبها أو لم يدركها، لا تقل خيانة عن المفسد في الأرض من المرتشين والجهلة المتولون أمور العامة.
إلا أن حبة خردل من خيانة الاوطان لا تبررها أي مبرارت فكيف إن كانت الخيانة أكبر من مثقال حبة خردل. وقد آعتبرت أمريكا بلد الحرية، مجرد الميول للاشتراكية، خيانة أعظم من ألف مثقال حبة من خردل لا حبة واحدة. فما من خطر أعظم على الأوطان من خطر الأيدلوجيات. تقلب فطرة أصحابها فتبرر لهم خيانة أنفسهم فيخونوا الأوطان والشعوب والأهل والتاريخ.