د. حمزة السالم
كم من المشاريع الصغيرة والكبيرة والعملاقة التي تحتوي على قسم كبير من العمل والجهد الفكري يُستبعد ابن الوطن من تعلم تفاصيلها وأسرارها, أنانية واستهتاراً, من المسؤول عنها ويُكتفى بنصب بوق وطني يتلوا مزهواً ما يُملى عليه من إنجازات لم يكن له فيها يد ولا جهد ولا دراية ولا معرفة ولا يدرك منها إلا الخطوط العريضة التي تكتب عناوين للإنجازات.
كم بنينا من مطارات, وكم أنشأنا من مصانع, وكم شيدنا من موانئ فهل حققنا أي استقلالية ذاتية؟.. أنا لا أعني هنا المهن البسيطة المتوافرة بكثرة في العالم الثالث والتي يدندن بعض المسؤولين حولها لترسيخ فكرة استحالة الاستقلالية الذاتية. فبريطانيا سخرت جيوشاً من الهنود ومن غيرهم ولكن لم تستخدم قادة وضباطاً منهم، بل اقتصرت في ذلك على أبنائها من البريطانيين يتعلمون فنون القيادة العسكرية على حساب دماء هؤلاء الهنود.. المقصود بالاستقلالية الذاتية هنا هو اكتساب المعرفة العلمية الإدارية والرقابية والإشرافية والتقنية والتنفيذية, التي لا تتأتى إلا بالخبرة والممارسة.
العذر فيما مضى مقبول، فلم يكن هناك وعي في تلك الفترة المتقدمة ولم تكن هناك عقول سعودية كافية لمواكبة المشاريع التي خلت وانتهت، أما الآن فلا عذر وشبابنا يجول في الشوارع بشهادات أكاديمية بحثاً عمن يفتح الباب له دون اشتراط سنوات من الخبرة.
إنجاز المشاريع تحصيل حاصل يجب ألا يقصد لذاته، بل يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي من جلب الشركات الأجنبية هو اكتساب الخبرة والمعرفة منها.
شروط الحصول على المناقصات الحكومية لم تترك شاردة ولا واردة ولا أمراً تافها ولا حقيراً، صورياً كان أو حقيقياً إلا وتضمنته, فلم لا تتضمن شرط تعيين شاب سعودي يحمل الشهادة العلمية المناسبة فيلازم الأجنبي ذا الخبرة ويعمل معه طيلة مدة المشروع على أن يكون ذلك مقابل مخصص مالي محترم مقطوع يدفع للشاب السعودي لكي يحرص على التعلم واكتساب الخبرة والمعرفة.
الالتفاف على القوانين والاستثناءات كفيلة بأن تحبط أي تشريع طموح يفرض تعيين شبابنا إلى جانب الخبراء الأجانب لاكتساب الخبرة والمعرفة منهم, إلا أن تشكل هيئة وطنية يقودها مخلصون, جد مخلصون, مهمتهم مراقبة المشاريع الحكومية وتعيين من تتناسب شهادته من أبنائنا ليلازم ويعمل مع قرينه الأجنبي في المشاريع المقبلة على البلاد ويطبق ذلك على القطاع الخاص, فلا تمنح فيزا لخبير أجنبي إلا وعقد لشاب سعودي يلازمه براتب مجز قد تم توقيعه.
ولنقف وقفة صدق مع أنفسنا، فإذا استثنينا المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع من الأجانب ذوي العيون الزرقاء الموجودين عندنا في بلادنا فسنجد أن الأجنبي الكفؤ الماهر لن يأتي إلى العمل في بلادنا إلا أن يكون ضمن بعثة حكومة أجنبية وعنده أجندة أخرى للقيام بها, أو أن يكون قد أكل الدهر عليه وشرب لا أهل ولا عمل ولا مستقبل له في بلده، قد توقف الإبداع والتجديد في نمط تفكيره وإداراته. وفوق كل ذلك فلن يترك الأجنبي الكفؤ بلاده إلا أن نتنازل له فنضعه في مرتبة سامية رفيعة لا يرتقي لها أبناء الوطن. هذا كله إلى جانب تقديم مبالغ ضخمة له لإرضاء غروره وكبريائه.
فالأجانب اليوم لا يصنعون لنا جديداً بل ينسخون العمل القديم مع تغيير للمسميات.. ولذلك تموت غالب الطموحات وتضيع غالب الخطط.. فالمقدم لنا قد صنع لغيرنا، والجسم قد يرفض العضو المزروع فيه ولو شابهه في كل شيء، فكيف بالمجتمعات.
المشاريع الطموحة القادمة تحوي بين جنباتها أرقى وأعلى مستويات تحصيل الخبرة والمعرفة والتي لا تُقدر قيمتها لا بالريال ولا بالدولار، فيجب ألا تُترك منفعتها للأجنبي، ويجب أن تخطط بكيفية تؤهل شبابنا للاستفادة منها لكي نبني وطناً أسطورياً حقيقياً قائماً بذاته لا بغيره، ولكي نستطيع مواجهة المخاطر المستقبلية المحتملة من إمارات أندلس القرن الحادي والعشرين.