د. خيرية السقاف
في محطات المسير لا يرى المرء من الآخرين سوى أجسادا تتحرك، ومن ثم تستقر في مقاعدها،
يسمع أصواتهم، غوغاءهم وهدير صداهم،
يرى ما يحملون في أيديهم من بقايا حقائبهم، وطارئ احتياجهم.
وجوههم بملامحها الفرحة بلقاء، والحزينة لوداع،
يقف على تفاصيل رغبات جامحة لهم، منفلتة عن نفوسهم، نحو مقعد شاغر يسرعون إليه قبل غيرهم، وصف مزدحم يناكبون ليكونوا في أوله، وكوب قهوة ربما يكون مقرا لقلقهم، وصاحب قديم لم تجمعهم به أيام طوال، و..و..
ففي المحطات يتحلل المرء من عبء استقر في صدره، ربما في ذهنه، ربما فوق كتفه، ربما أجهد قدميه، وكلت به عيناه، ليتركه بعيدا خارجا عنه، ويهرب..
المحطات دروب لما يعتلج بالإنسان من وعثاء ما مر، أو لما سيأتي، يختارها المرءُ غالبا، وقد يُزجُّ فيها قسرا..
المحطات في وجه آخر لها قد لا تكون نحو سفر لبقعة أخرى من الأرض،
وإنما محطة السفر النبيل نحو النفس، نحو ذات الفرد ليكون المرء مؤهلا لهذه الذات بوقته،
يحللها مما أثقلها به من جهد، وتفكير، وبذل على صُعد عديدة في أيام طالت بها، أو نسيها هو في معمعة العطاء..
المحطة للذات أجدى النقاط في مراحل السفر، وقِبْـلةِ الاستعادة، وعذب التطهير..!
إن المرء لا يفقد ذاته حين يغذ في العمل أيا كان، لكنه حين يفعل يرفعها في منزلة حتى يعود إليها في المحطة،..
يلتقيها ليصغي إليها، يتفقدها ليزيدها، يجدها ليتذوق معها طعم القهوة، ويرى معها براح الرؤية، ويجد معها ما خفته عتمة الزحام عنه، وأقصته عنه غوغاء التزاحم..!
الطرق الكثيرة التي عبرها قبل المحطة التي يذهب عنها إليها شغلته بكل صوت، وصدى، ولمعة، وضوضاء، وهدير، ودوامة، وظلمة ليل، وقيظ نهار، وشحوب ظهيرة، وعتمة غروب، بكل ألوان الناس، وسجاياهم، حسنهم وسيئهم، جميلهم وقبيحهم، زائفهم ونقيهم، متفاعلهم ومتقاعسهم، بفراغهم، وبوعيهم، بصدقهم، وبكذبهم، بأثرتهم، وبحقدهم، بسذاجتهم، وبعمقهم، ببياضهم، وبغشهم..
في محطته نحو ذاته سيتحلل كالطير بجناحين وفيرين نحو فضائها الأرحب، الأنقى..
سيجدها عند نبعه تنتظره لتفرغ معه بقايا التعب، والألم، والحسرة، والدهشات، والغرابة..
لترمم به فراغات ما أعطى، وبذل، وتفانى، وتعيد معه ترتيب ما تشتت..
هذا اللقاء بالذات كالسَّجية في الإنسان، ينقاد إليه المرء حين لا حواجز بينه وبينها..
يأتي دون أن يكون له إلا أن يكون في لحظة أن يكون..!!
* * *
بهذه المقالة سأودعكم قرائي الأعزاء، لأعود فألتقيكم بعد إجازة عيد الفطر المبارك، مهنئة لكم برمضان الخير وجائزة عيده الأطيب..
وفقكم الله لصيامه والفوز بالقبول.
تحية خضراء لرفقتكم، كنتم المصباح، والوقود..