أحمد الدويحي
مثل هذا الكتاب يفرض عليَّ قراءاته، ولو لم أكن في وارد ذلك أو معنياً بشأن موضوعاته الدقيقة والحية، فمؤلف هذا الكتاب من ناحية، ليس مجرد صديق فقط وهذا شرف لي، ولكنه نموذج للإنسان المكافح والعصامي الذي يرتقي بذاته، ويثقفها ليصبح معطاء لوطنه ومحيطه، فسيرته الذاتية وموضوع كتابه القيم ثانياً، هي التي فرضته اليوم، ليكون موضوعاً لحروفي المتواضعة، فهذا الإنسان عاش وحيداً لوالديه، وقد فقد والده - رحمه الله - في سنٍ مبكرة جداً من حياته، وقبل أن يخطو خطواته الأولى، نحو مدرج التعليم وميادين العمل، فعاش يتيماً متكئاً على الله ثم طموحه ونبوغه، وكان التعليم الفني بعد التعليم الابتدائي سبيلاً لبدء حياته، وأسهمت نوعية هذا التعليم الفني على تفتح مداركه الحسية والجمالية الفنية، فكان رسم الوجوه (بوتريه) أولى خطواته، هذا الفن المبكر في حياتنا المجتمعية لفهم الناس، وفهم تفاصيل الحياة وتحولاتها وهنا - كانت معرفتي الأولى بمسفر، فقد مثّل قدوة لي مع أنه لا يكبرني بأكثر من ثلاث سنوات تقريباً، وقد تكون اللمسة الفنية وعشق القراءة عاملاً مشتركاً بيننا، تتجاوز كل المشتركات الأخرى، كجيران نسكن في القرى الجنوبية، ومن ثم جيران في (عزب) متجاورة في أحد أحياء مدينة الرياض القديمة، كانت القراءة الحرة رغم ندرة الكتاب، والرسم رغم الإشكالية التي يمكن أن تطال الرسام في ذلك الزمن، وقد بدأ حياته العملية جندياً في الأمن، ولكنه لم يركن لواقعه الوظيفي كما فعل كثير من أبناء جيله، فجاء تميُّزه الآخر بتطبيق النظام الدراسي، فدرس الكفاءة المتوسطة لثلاث سنوات في سنة واحدة، وتبعها بالثانوية العامة قسم علمي في نظام السنة الواحدة أيضاً، ويتخرج من الأوائل ويحظى ببعثة دراسية حينها، وتكون دولة باكستان وجهته القادمة، فيصادف الحظ بحضور الملك فيصل - رحمه الله - حفل تخرجه، وكان في زيارة باكستان وحضر تخرج طلاب المملكة من الكلية البحرية الباكستانية، وحظي مسفر بتسلم كل الجوائز الممنوحة للطلاب المتفوقين في ذلك الحفل، وتسلم جائزة المركز الأول وسيف الشرف من يد الملك فيصل، ولتكن الخطوات العملية الأولى للضابط مسفر صالح المرعي الغامدي، لينخرط الضابط البحري في وظائف عسكرية متنوعة، ويتدرج في شغلها حتى تقاعده مساعداً لمدير عام حرس الحدود لشئون العمليات قبل سبع سنوات برتبة لواء بحري ركن.
كان لا بد من هذه المقدمة، ليس تبريراً لكتابة غير معتادة، وخروجاً عن نسق الكتابة الأدبية، ولكنها توطئة لسيرة جعلت لحياتها معنى، وقيمة ترفض أن تبقى على الهامش، فكان يدرك أن المكتبة العربية فقيرة في الدراسات العسكرية المتنوعة، فعكف بعد التقاعد على الكتابة والتأليف في ميدانه وتخصصه، فأصبح مطلوباً منه إلقاء المحاضرات في الكليات العسكرية في الداخل والخارج، تُشكّل من موضوعات كتبه المتنوعة التي تجسّد خبرته ووعيه، وقد صدر له حتى الآن:
- التحديات الأمنية أمام دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي.
- القرصنة البحرية أمام السواحل الصومالية وخليج عدن (أسبابها وتداعياتها).
- مفهوم أمن الحدود الدولية البرية والبحرية.
- تداعيات الصراع الدولي والإقليمي على النفوذ في منطقة البحر الأحمر.
وسنستعرض بعض المعلومات الثرية في الكتاب الأخير، صدر هذا العام عن دار المفردات للنشر والتوزيع، فالكتاب يشير إلى الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر، وقد خصص فصلاً في نهاية الكتاب عن حروب اليمن، وليبيّن من خلاله غاية التمرد الحوثي في السواحل البحرية، وقد كانت من قبل هدفاً للاعبين الدوليين الكبار والإقليميين أيضاً، ويدخل في تلك الأهمية الموقع، ووفرة الموارد الطبيعية، وعوامل سياسية واقتصادية ودينية.
ويشرع المؤلف إلى تسليط الضوء وقراءة تاريخية، شهدتها منطقة البحر الأحمر عبر العديد من التحولات والمتغيرات، وصراع النفوذ الخارجي والإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية، وتقاسم القوى الكبرى مواقع النفوذ في العالم، وسعيها للحصول على محطات بحرية بين الشرق والغرب، ثم ما لبثت تلك المحطات إلى تحولها إلى قواعد للقوى الاستعمارية، لتتمكن تلك القوى من المحافظة على مصالحها ونشر إيديولوجياتها، وتأتي إسرائيل كنموذج مغروس في قلب المنطقة العربية، لتبقى ذراعاً طويلة للدفاع عن مصالح تلك الدول الاستعمارية، وإعاقة شعوب المنطقة دون تحقيق تطور وتنمية، وإشغالها في أزمات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، باستمرار وإدامة الصراع العربي الإسرائيلي، والمؤلف يقدم لمحة عن جغرافية البحر الأحمر، وتسميات تاريخية للبحر الأحمر لدى الشعوب التي سكنت على شواطئه، إذ يُعد بحيرة شبه مغلقة بباب المندب من الجنوب، ومن الشمال بقناة السويس ومضيق صنافير وتيران، ليمكن التحكم في عمليات الملاحة الدولية، وتطلُ على البحر الأحمر دولٌ منها مصر والسودان والصومال وجيبوتي وإريتريا كدول أفريقية، والمملكة العربية السعودية والأردن واليمن وفلسطين المحتلة كدول آسيوية، وتعدُ جميعها دولاً عربية تدين بالإسلام عدا (إسرائيل وإريتريا)، بينما تدين إسرائيل باليهودية، وإريتريا ذات أغلبية مسلمة.
ويسهب المؤلف في الحديث عن صراع القوى الخارجية (تاريخياً) على النفوذ في منطقة البحر الأحمر، إذ بدأ الصراع مبكراً في القرن الخامس عشر الميلادي، وتعاقبت الدول الاستعمارية الغربية كبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وفرنسا على مناطق النفوذ، وشكّل سقوط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تطورات وتحولات في مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية، عكست تداعياتها وتبعاتها على منطقة البحر الأحمر إلى اليوم، وجاء سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الشمولية، وخروجه من منطقة البحر الأحمر، ليعطي دولاً إقليمية كإيران وإسرائيل محاولة ملء الفراغ، وبسط الولايات المتحدة نفوذها بالكامل على منطقة البحر الأحمر بوجود الأساطيل الأمريكية والغربية فيه، ويخرج المؤلف بتحليلات ونتائج عقب مرحلة (الوفاق) الدولي، وانتهاء الحرب الباردة بظهور قوى إقليمية جديدة في حلقة صراع النفوذ، وظهر التضامن العربي في حالة من الضعف بعد حرب الخليج الثانية، ليغري إيران للدخول كلاعب جديد على النفوذ في هذا الجزء المهم من العالم، ذي الأهمية الإستراتيجية الكبرى.
والكتاب من الأهمية، أجزم بأني تجاوزت فصول ومعلومات ثرية، لا يمكن بطبيعة الحال حشدها في زاوية ضيقة، وآمل أن لا يخل به مثل هذه القراءة غير المتخصصة، وهذا الابتسار لموضوعاته المتخصصة والمتشعبة، فقد استعان مؤلفه بعشرات المراجع المتخصصة، ولكن المؤكد أنه سيكون إضافة مهمة للمكتبة العربية، ومرجعاً مهماً للباحثين وللقارئين، وليغفر لي هو إذا اطلع على نقص لم أحط به، أو أكتشف زيادة غيرة لائقة لم ترد في الكتاب، فقد حاولت أن أستعيد اللغة الأولى لغة (بوتريه) البدايات التي تشعل الطموح وتوقد الذهن.