د.فوزية أبو خالد
على الرغم من الصدى الجميل والمشجع الذي جاءني على إثر كتابتي عن د.فاتنة شاكر والشاعر أحمد الفقيهي ود.عبدالله الغذامي والشاعر علي الدميني ود.سعاد المانع ود.خيرية السقاف وسواهم من الشخصيات المجددة في مسيرتنا الثقافية إلا أنني في مقال اليوم ساقطع كتابتي القريبة التي استأنفت فيها هذا اللون من التسجيل الحفري لملمح من مراحل تاريخنا الاجتماعي والثقافي لأعاوده لاحقًا والسبب ببساطة هو الشجن الذي يثيره في نفسي مجيء رمضان. لم أقطع ما أنا فيه من عمل وعلاج في أمريكا لآتي إلى الرياض هربًا من ساعات الصيام الطويلة هذه الفترة من العام هناك، فقد حدث وصمنا حين كنا طلابًا وملتزمين التزامًا لا مشيئة لنا بالفكاك منه أن صمنا لمثل هذه الساعات وأطول، بل إن تدريسي بجامعة بورتلاند الحكومية بمدينة بورتلاند في الشمال الغربي - ولاية أوريجن بالأمس القريب عام 2009 قد صادف شهر الصوم الفضيل في عز شهر أغسطس أو آب اللهاب كما يسميه العرب في بلاد الشام، ولم يزدنا ذلك إلا قوة وصحة وبأسًا على العمل من نجمة الفجر لنجمة الغروب.
ما حملني على أجنحة الشوق إذن هو حنيني المبرح لذلك الحس المرهف النبيل الذي اسمه شجن شهر رمضان الذي لا أستطيع أنا شخصيًا أن أجده أنى غربت أو شرقت إلا في ذلك العناق التمازجي الدنف بين المكان وبين الزمان في صيام شهر رمضان على أرض الوطن.
تشتاق روحي لاستقبال تلك الرائحة الشفيفة الطاغية التي تسبق إطلالة شهر رمضان معجونة بأنفاس البشر وبتراب وهواء وشمس وليل وجراح وأسرار ودعاء وشظف ودعة تفاصيل مكان اسمه المملكة العربية السعودية في جدة أو الرياض، في ثادق أو شقراء، في ملهم وحريملاء، في وادي الوج أو روابي قبا، في الجوف وسكاكا أو أبها وخميس مشيط وجازان، في عنيزة والرس أو جبل أجا والقطيف والهفوف، وفي الزلفي أو شقراء.
تهفو حواسي لصوت الأذان والإقامة لصلاة التراويح لدعاء القيام لتنوع قراءات الأئمة من مدرسة أحمد العجمي المترعة بالحزن وماء الآيات إلى قراءة ماهر المعيقلي المقطوفة من خليط الآمال والآمال والتأمل أو قراءة الكلباني الفواحة بحلاوة الإيمان ولذة الصيام.
تشدني روحي التواقة لعبير رمضان معجونًا بتفاصيل المكان من يدي فاتبعها لأعود إلى شارع جرير وشارع البحر الأحمر بالملز وحارة الأحرار بذاكرة الطفولة لأرى أيدي سمراء معروقة مصهورة بالنَّار وهي تخبز الطحين فتحوله من بودرة بيضاء إلى أرغفة مقمرة شقراء تجري رائحتها في شراييننا الدقيقة وتجرح الصيام، تجرني الرائحة من يدي إلى حارة المظلوم بجدة وبرحة القزاز بالطائف وساحة الحرم الشريف بمكة المكرمة فألتقي خالي هاشم بعمامته ذات اللون الكهرماني وزوجته زينب يرحمهما الله وأطفالهما يصبون صلصال القطايف كما تصب عمتي طرفة المصابيب في دوائر من ذهب الزيت والسكر المحروق وخيوط الشمس بألوانها اللهبية الناهبة للخيال.
تمتد لبيتنا عرائش السواعد لنتبادل مع الجيران الرغيف الجنوبي والهريس الحساوي والبريك المديني وجيب الفقير والسمبوسة بالحاشي والسلطات بدبس الرمان والجريش والشوربة الحب والقرصان، وتستمر تلك الأريحية النسوية التي تجمع البيوت في رمضان بكل الأحياء التي سكنتها من حي الشرفية بجدة لحي الربيع شمال الرياض على مدى ما يقارب قرن من الزمان دون أن تتغير تلك الحاجة الملحة التي باتت هي المخرج الوحيد لعزلتنا السنوية لنخرج عليها إلا في رمضان ونمد حبال الحب بين الأحياء وعبر الوطن.
يحق لنا أن نقول: رمضان السعودية غير ليس في ظاهرة امتلاء المولات بالمشترين والمتفرجين قبل ساعات الغروب بقليل وليس لحمى الشغالات التي تحول مع الأسف سوق السيدات العاملات إلى سوق أشبه بالنخاسة في تنافس الأسعار والمتاجرة بعرق البشر إبان هذا الشهر بالذات، وليس في توسع افتتاح البوفيهات الرمضانية وكأن ليس في بيوتنا مطابخ فذلك جزء من أعراض مصاحبة لمظاهر الحياة الاستهلاكية التي تنغمس فيها شريحة اجتماعية من المجتمع السعودي والخليجي في رمضان وغير رمضان ولكن يظل رمضان غير بالسعودية لما أعرفه ولا أعرفه من الأسباب والأسرار وهذا هو سحر رمضان الحلال على ما يبدو.
للأسف أنني مضطرة أن أقطع المقال عند النقطة أعلاه حيث الصحيفة تتصل وأشعر بالحرج من رئيس التحرير الماسترو خالد المالك والزميل خالد المشاري على إخلاف وعودي بتسليم المقال صباح الاثنين، فيما الساعة تقترب الآن من الخامسة عصر الاثنين أي قبل رمي مدفع الإفطار بالذاكرة بأقل من ساعتين، وذلك لأنه مر بأطفال الأسرة عارض صحي قبل رمضان فلم استطع معه كتابة حرف واحد طوال الأسبوع الماضي مما أجل كتابة هذا المقال وضيق الوقت علي أن أكتبه بذلك الشجن الجارح الذي احسه خاصة أنني اضطررت للذهاب إلى الطوارئ لحالة طفل آخر قبل قليل ولعلها بإذن الله بسيطة.
فالمعذرة منكم أيها القراء ومن الزملاء بالجريدة وكل رمضان ووطننا وشبابنا على مختلف الجبهات الشريفة في حال قادر على إصلاح الحال للأحسن.
والحقيقة أنني أحس بالحياء وأنا أكتب هذا الكلام كيفما أتفق بينما هناك جرائم حرب منظمة تجري في حق أطفال بلاد العراق والشام والجبهات العربية المنكوبة الأخرى ولذا نسأل الله أن يكون رمضان ملهمًا للبحث عن شفاء المجتمعات والأوطان.