إبراهيم عبدالله العمار
انظر إلى رائد الفضاء. ماذا ترى؟
ترى لباسه الواقي، ترى خوذته، ترى عزلاً كاملاً له من الفضاء. لماذا هذا؟ إنها ليست مسألة عزل بسيطة كما يلبس عمّال تنظيف المصانع الكيميائية لباساً واقياً، بل إن حماية الرائد من أخطار الفضاء عملية ضخمة معقدة كما قال الطبيب بيتر وونغ في كتابه الشائق «الدرجات القصوى»، لأن الجسم لا يتحمل ارتفاعات عالية جداً لأسباب كثيرة، منها انخفاض الضغط الجوي الذي يعسّر تنفسّك إذا ارتفعتَ عن سطح الأرض، فكلما صعدتَ للأعلى قلّت قدرة الضغط أن يضخ الأكسجين إلى أغشية الحويصلات الهوائية والوصول إلى الدم. كمثال لقلة الضغط .. إذا وصل الإنسان لارتفاع 12كم يقل الضغط حتى يكون خُمس الضغط العادي. إذا طرتَ للأعلى ووصلت إلى 19 كم فوق سطح الأرض فإنك تصل لشيء يسمى خط أرمسترونغ، وهو حدٌّ يعني أن نقص الأكسجين في تيار دمك لم يعُد الشيء الوحيد الذي يهدد حياتك.
ماذا يحدث في خط أرمسترونغ؟ شيء مخيف .. شيء غير متوقع: إنك تبدأ في الغليان! لتعرف ما يحصل انظر لمطبخك، هل لديك قِدر ضغط؟ هذا هو التفسير. كيف يعمل قدر الضغط؟ إن درجة غليان الماء ترتفع كلما ارتفع الضغط المحيط بها، ولهذا فإنك إذا وضعت الكوسة أو الجزر أو الباذنجان في هذا القدر المُحكَم الإغلاق فهي تُطبَخ بسرعة، لأن الضغط يرفع الدرجة التي يغلي عندها الماء ويسمح بدرجات حرارة أعلى قبل أن يغلي الماء، وهذا يجعل الطبخ أسرع مما يحدث في القدر العادي، وكما أن الضغط إذا زاد ارتفعت درجة غليان الماء فالعكس صحيح: كلما قل الضغط كلما قلت الدرجة التي يغلي عندها الماء. الماء يغلي عند 100 درجة مئوية، وإذا قل الضغط كما في قمة إفرست مثلاً فإن إبريق الشاي سيصل للغليان في درجة 70 مئوية، وأظنك الآن بدأت تقلق لأنك عرفتَ ما يحدث في خط أرمسترونغ. نعم، لكي يغلي الماء فما عليه إلا أن يصل لدرجة 37 مئوية... أي حرارة الجسم البشري! إذا وصل الإنسان لذلك الارتفاع يَسخن ماء أنسجتك ويصل للغليان، فقاعات البخار تتضخم وتُوَرِّم الأنسجة الرقيقة وتجعل الجسم ينتفخ كالبالون.
الغريب أن الدم لا يغلي في الشرايين، لأن جدران الأوعية الدموية تعمل مثل قدر طبخ وتمنع الماء في تيار الدم من أن يصل للغليان، لكن يختلف الوضع في الأوردة، حيث الدم يمشي في طبقات ضغط أقل بكثير، وفقاعات البخار تتشكل، وإذا طال التعرض للفضاء العالي فإن الفقاعات تكبر وتسبب نقاط اختناق هوائي وتوقف الدورة الدموية وفي النهاية القلب نفسه، لهذا فمن يتعدى خط أرمسترونغ عليه أن يستبدل القناع بحُلة فضائية مضغوطة تُحيطه بجوٍّ صناعي يسمح بالحياة. لو تخيلتَ كوكبنا بحجم كرة قدم فإن المساحة التي تقدر أن تعيش فيها بلا تدخل علمي تقني ليس إلا شريحة بالغة الرقة، وتخيّل أنك غلّفت تلك الكرة بورقة، فمساحة الحياة الممكنة أقل من تلك الورقة!
لهذا ترى على الرائد تلك الحلة المضغوطة المحكمة الإغلاق، قطعة من جو الأرض يحملها الرائد معه ليسبر أغوار الفضاء .. حيث لا قدرة على الحياة إلا بأعظم العلم البشري .. وبالكاد.